الأمير كمال فرج لـ الجزيرة السعودية : أتدثر بنظرة السر لأتذوق الجمال والأدب
الطائف : عدنان المهنا.
الأمير كمال فرج يغزل راية الشعر، ويستمر معها لا كلل أو ملل، ولاهم يحزنون، اسمه الأول "الأمير" ..، تتوسم فيه قوة مراس الأدب، وشدته، لأنه يتجرعه فيتسلل من عطاءاته ضوء صارخ يرسله إلى الصبح معصوبا بالنبض والقلب والخفقان.
وهو شاب يتدبر أمر مواهبه، فيقدم لها عرقا مصقولا ، ويسمو بها من مجرد فنون أدبية شاملة، وعابرة، وخاطرة، إلى فنون هادفة ومتميزة، إنه يخط أسطورة إيقاع الشباب، في زمن بيضاوي عذب، كل شرائحه ظباء نافرة تتوق للمجد، فيوقظها شعاع مزدهر بالأدب والتقنية، وروايات العواصف والشلالات.
ويعجبني في هذا الأديب شموخه المتواضع الذي يحكم شد أزره، ويمضى ببقايا الإبداع والابتكار اللفظي في الشعر والرواية والمقال.
ومض كبير يحمله "دماغ" الأمير كمال فرج، لكنه أيضا مسلح بالثقة في كل الأشياء التي يخطخا، ولديه مناعات كاملة لحمى التنافس في هذا الزمن، وبعطر رجولي ترشفه الآفاق.
إليكموه في مواضيعنا الفكرية والتلقائية يمسحها بعينه وفكره، ويهديء روعتها.
الحلوى والحمص كرم لقراءتي الأولى
ـ ماأول كتاب قرأته في خطواتك نحو الأمل، ونحو الأدب، ونحو العمل، وكيف مضيت ببشارة الحياة إلى مبتغاك؟
ـ أول كتاب وقع نظري عليه هو القرآن الكريم، وكان ذلك في مرحلة مبكرة من الطفولة، عندما أحضر لي ةالدي شيخا أزهريا اسمه الشيخ "أحمد" لتحفيظي كتاب الله، وكان يقطن في "البر الثاني" وهي منطقة سكنية تقع على الشاطيء الآخر لنيل مدينتي كفر الزيات.
وكان الشخ أحمد يحضر يوميا إلى منزلنا ومعه الحلوى والحمص لترغيبي وتشجيعي على الحفظ، وكان يقضي معي يوميا ساعتين يتلو فيهما علي القرآن الكريم، بترتيله المدروس، وأنا أرد وراءه، وأذكر أننيفي البداية كنت أتحايل للهرب من هذه الحصة، ولكن الحلوى والحمص جعلاني بالتدريج أحبها، وأحرص عليها.
وكنت أجلس بجوار والدي بجلبابي وطاقيتي البيضاء أردد القرآن الكريم والأدعية الجميلة، فكان لذلك أثره في اقترابي من القرآن الكريم وجرسه وعانيه، وتقويم لساني وتنشئتي اللفظية.
أما القراءة العامة فبدأت أيضا في مرحلة الطفولة، فقد كان جيلي ذلك الجيل المحظوظ الذي لحق في طفولته جزءا من الازدهار الثقافي، حيث كان الكتاب هو الوسيلة الأولى لثقافة الطفل، قب انتشار طوفان الفيديو والأفلام المدبلجة، التي أصبحت المصدر الأساسي لثقافة طفل اليوم.
وفي طفولتي كانت لدينا ظاهرة فريدة تعطي لك مؤشرا على انتشار الثقافة في هذا العصر، فقد كنا نجري عملية تبادلية متواصلة، فنبادل القصص التي نقرأها بأخرى لم نقرأها، وكانت عملية التبادل الثقافي هذه تمتد لأطفال في أحياء أخرى لا نعرفهم، وهكذا يتعدد الكم الذي يقرأه الواحد منا، وكان لعملية "التبادل الثقافي" هذه ـ إن صح التعبير ـ أثر كبير في تكوين ذواتنا الثقافية فيما بعد.
دعنا نتعامل مع الأدمغة العالمية الند بالند
ـ يقال أن شكسبير يفكر بعقلية عربية، وأن ذهنيته لا تختلف عن ذهنيتنا، وأن تعاطفا بيننا وبينه مما يجعل البراهين تتكدس يوما بعد يوم على أن للرجل مع العروبة شأنا، وقد أسماه المفكر صفاء الخلوصي "الشيخ زبير" لرواسبه الفعلية العربية..، فماذا تقول أنت ؟
ـ ليس هناك عقلية عربية وأخرى أوروبية، فالعقل البشري واحد، وإن أردنا الاصطلاح يجب أن تكون العقلية إنسانية، فالتباين بيننا وبين الغرب تباين سلوكي، وليس تباينا عقليا، والعقلية الإنسانية التي ننتمي إليها جميعا كبشر عقلية سوية، أرست دعائمها الأديان، والكتب السماوية، ولكننا كبشر تفرقنا وتحزبنا، وتقوقعنا في فرق وجماعات، تعتمد على مرتكزات ما أنزل الله بها من سلطان.
والاسلام وضع منذ بزوغه الأنموذج الأمثل للعقلية الانسانية السوية، فمن اتبعا فقد أصاب، ومن جانبها فقد جانب الصواب.
لذلك فإنه لن يضيرنا أو ينفعنا أن يفكر شكسبير بعقلية عربية أم لا؟، لأن العقلية إنسانية، وهي الأصل الذي انحسر في الغرب للدرجة التي عندما نرى من يفكر بها تصيبنا هذه الحالة الغريبة من الفرح والانبهار.
واسمح لي أن أقول.. لماذا هذا الانبهار والدهشة عندما نجد من هؤلاء من يتخذ موقفا مؤيدا أو متعاطفا أو معجبا تجاهنا، ولماذا هذه الدونية التي لاتتفق أبدا مع تاريخنا واسلامنا وحضارتنا التي علمت العالم؟، لماذا لانتعامل مع المجتمعات الأخرى الند للند؟، ولماذا لايمارس الغرب نفس الحالة من الفرح والانبهار عندما يثبت أن عربيا تأثر بمنظور غربي؟، لماذا نحن في حالة الدهشة مما يفعله الآخرون؟، وكأننا لم نفعل أضعاف مافعلوا؟، ولم نشد أعظم مما شيدوا؟، أسئلة تحتاج إلى إجابات صريحة. ومعذرا لردي على سؤالك بأسئلة.
قوتنا بين أصابعنا وتحت أقدامنا تتسلل إلى جذورنا
ـ علمنا نيتشه فلسفة القوة، وعزف المتنبي أحلى أغاني الفلسفة في ذواتنا العربية، متى يأتي ذلك اليوم الذي تظهر فيه القوة الحكيمة العادلة فتمحو الأشباح الهزيلة المتخاذلة التي مسخت شخصيتنا الحضارية والثقافية، فيعود الشرق العربي قطب الرحى، وموئل الحق، ومنبثق النور؟
ـ رغم الواقع المؤلم الذي نعيشه كعرب الآن، ورغم حالة السبات التي يعيشها الانسان العربي في هذا العصر، حيث تكالبت عليه النوائب من كل صوب، وأصبح هدفا لكل ماتفتق عنه الذهن الغربي من مؤامرات وفتن واستخبارات لطمس وتهميش هويته الحضارية المضيئة، مازال لدي الأمل، إذ لا نستطيع الحياة بدونه ـ في أن تأتي هذه القوة الأسطورية التي توقظ العرب من مواتهم، وتنقذ الأمة من الشتات، وتقودها نحو فجر جديد.
وهذه القوة لن تأتي من الغرب كما يتوهم العرب وينتظرون، ولكنا ستأتي من تحت أقدامنا، وتتفجر من بين أصابعنا، وحتى تأتي هذه القوة الفاتحة سيظل العرب تحت القصف، بين فكي الرحى .. العدو والصديق.
"اطو الفلا طيا" فضيلة التفعيلة الأولى
ـ ما الذي جعل الشعر الحر أو "الحداثي" لهفة وينابيع عاطفة تتفجر من خلالها آلام وآمال الشباب؟.، وكيف جعل أدونيس نهر السؤال الحر طفلا يسأل البعض البداية، وينام على ركبتيه؟
ـ الشعر الحر أو الشعر الحديث، والأصح "شعر التفعيلة"، لم يكن وليدا للعصر الحديث، على يد صلاح عبدالصبور، أو نازك الملائكة، أو السياب أو باكثير كما يزهم البعض، وإنما هو شكل وأسلوب قديم قدم المسرح اليوناني، فالشعر العربي منذ نشأته شعر تفعيلي حداثي، ولم يعرف يوما الشكل العمودي الذي تتميز به القصيدة العربية.
وفي الشعر العربي القديم أيضا وجدت نماذج يمكن إرجاعها إلى هذا الشعر، من حيث الشكل أحيانا، والأسلوب أحيانا أخرى.
وأنا أزعم أن الشعر العربي نفسه بدأ شعرا تفعيليا، وأنه لو تصدة باحث لدراسة ينابيع الشعر العربي ومصادره وبواكيره لوصل إلى هذه النتيجة. فالشعر في نشأته لم يكن وحيا نزل على قائله بهذا الشكل العمودي، وهذا الوزن المتتابع المدروس، وهذه القافية المنتظمة الجهورة، ولابد أن تكون قد سبقته محاولات نثرية، ثم تفعيلية، ثم وزنية، ثم مقفاه، هكذا يقول العقل والمنطق.
والبيتان الشهيران اللذان يزعم الباحثون أنهما أول أبيات قالتها العرب، وهما :
هلا هلا هيا .. اطو الفلا طيا / وقرب الحيا .. للنازح الصب.
هذان البيتان يمكن أن يكونا أول أبيات وصلتنا عن العرب، ولكنها ليست أول أبيات كتبتها العرب، أيضا لأننا لو أخضعنا العصور السابقة للعصر الجاهلي، وتقصينا المنابع الأولى للشهر، سنكتشف أن الشكل العمودي المنمق المرتب والمتتابع لم يكن أبدا هو الشكل الذي بدأ به الشعر.
والذي حدث هو أننا قرأنا ـ متأخرين جدا ـ الشعر الغربي، وتأثرنا به، فقلدناه، فكان شعر التفعيلة تواصلا لنظيره الغربي، وليس بداية لشعر جديد.
وشعر التفعيلة في رأيي شكل شعري مميز يجمع بين العمق والأصالة والإيحاء، ولا يضيره أن يأتي بهذا الشكل، لأن فنون التعبير مختلفة الأشكال، ولكن المضامين الإبداعية واحدة،وأن إحياءه على يد صلاح عبدالصبور ورفاقه أثرى الساحة الشعرية بشكل آخر من الشعر له أبعاده الخاصة من العمق والتأثير.
ويعاني شعر التفعيلة حاليا من مأذق خطرقد يكون سببا لفنائه بعد رحيل عمالقته، وهو أنالكثيرين من مبدعي هذا الشكل ليسوا على دراية كاملة بالمقومات الحقيقية له، فمنهم ـ وهم كثيرون ـ يظنون أن الاختلاف في الشكل فقط، فيكتبون شعرا في الشكل التفعيلي، ولكنه في الحقيقة لا يختلف بتاتا عن جوهر وأسلوب الشعر العمودي، وهنا مكمن ومقتل هذا النوع من الشعر.
أضرب مثلا على ذلك بشعر فاروق جويدة، فهو أحيانا يكتب شعره في شكل تفعيلي ، ولكن بأسلوب عمودي، وهو في الحقيقة بعيد تماما عن الشعر التفعيلي الحقيقي، ومثله كثيرون.
أما الشعر التفعيلي الحقيقي فتجتمع فيه مقومات إبداعية خاصة، لا يستطيع جمعها إلا الشاعر المبدع المثقف، المطلع العالم بالمفهوم الحقيقي لهذا النوع من الشعر.
وهنا أود القول أن القصيدة العمودية نفسها قادرة على احتواء الأسلوب الحداثي، والتعبير عنه، وهناك في تاريخنا الشعري قصائد بعينها نجحت في ذلك، وقد قدمت شخصيا نموذجا لهذه القصيدة العمودية التي تحوي بداخلها الشعر الحديث التفعيلي بمقوماته، دونما تخل عن الشكل العمودي، ولكن هذا النموذج ـ لاشك ـ يحتاج إلى قدرة شعرية خاصة لا يتمتع بها الكثيرون.
النظرة السر .. تذوق جمالي مكتنز في الذات
ـ علم الجمال هل هو مسكون بأمس الحضارات، أم بعضه لايشبه البيت المهجور..، مامزاياه الحضارية، والثقافية والاعلامية التي ينفرد بها ؟
ـ للجمال مدلوله الشائع والمرتبط غالبا بجمال الشكل، ولكن مفهوم الجمال في الحقيقة يتسع ليشمل أبعادا مختلفة، فالجمال جمال الشكل، والروح والحب والعطاء، والقوة، والضعف، وغيرها من المعاني ..، إلى أن تصل إلى النقيض وهو القبح، فللقبح أيضا جماله ومدلوله الفلسفي والفني، وأجمل نعمة يعطيها الله لعبده هو تذوق الجمال.
والتذوق الجمالي ينبع أساسا من الشخص نفسه، ورؤيته للأشياء، والشطرة الشعرية تقول "كن جميلا ترى الوجود جميلا" لذلك فإن علينا جميعا النظرة الجمالية للأشياء، هذه النظرة التي تتعدى النظرة الشخصية العابرة إلى النظرة المتأنية المتأملة التي تقيم جسورا مع الأشياء حتى لو كانت جمادا.
إن الحياة مليئة بمواطن الجمال، لكن الكثيرين لا يستمتعون بها، لفقدانهم هذه "النظرة السر"، وهم بذلك يخسرون الكثير، ويفتقدون بذلك جزءا كبيرا من السعادة.
لذلك فلا غرو أن يكون للجمال علم خاص يدرس، ويبحث ويقنن، ولكن متى نزرع الجمال ونغرسه في عقول أطفالنا حتى ينشأوا جيلا جميلا متذوقا للجمال صانعا له؟، هناك العديد من السلوكيات السلبية ننفق على علاجها أموالا طائلة، دون جدوى، ولو أردنا علاجها من الأساس لتوجهنا إلى البراعم الصغيرة، وغرسنا فيها الجمال وقيمته، عندها فقط نستطيع أن نشيد المجتمع الجميل الذي نسعى إليه.
شاعر القيمة وصيانة الوجه
ـ حبذا لو قرأت لنا شخصيتك، وفسحتك الرائعة لمسار الأدب، وهل ارتوت نفسك وازدهى وردها عند تحقيق آمالك؟
ـ قراءة الشخصية لا تنبع من الذات، وإنما تنبع من الآخر، فالكتاب لايستطيع أن يقرأ نفسه، وهناك من يقرأه، فضلا على أنني لو تصديت لقراءة شخصيتي قد لا أضمن التقييم الصحيح لعالم هذه الشخصية، فقد أجنح إلى التجمل أو يأخذني التيه، وهذا ما أرفضه.
وقراءة الشخصية هي وظيفة القاريء، والباحث والتاريخ، وإذا أردت أن أعرفها فقط أقول باختصار . أنا شاعر عربي يبحث عن قيمة حقيقية، لايهم السن أو الجنسية أو الوطن، فقط .. شاعر يبحث عن قيمة حقيقية، هكذا أرى أو أتصور نفسي والله أعلم.
هاماتنا العالية لا تتشدق بعبارة "محلك سر"
ـ يقول ناقد عربي "أن ثقافة أوروبا طفلة وليدة لا تتجاوز الأربعمائة عام، في حين أن ثقافتنا تتجاوز الستة آلاف عام، فقد كنا ندرس أولادنا في بابل وآشور ومصر والحجاز والشام واليمن والأندلس نظرية المثلث القائم الزاوية، وكانت أوروبا تنتظر لفترة أربعة آلاف سنة ليظهر فيها فيثاغورس ليسرق النظرية من الرقم الطينية، وينتحلها، ويعلمها للأوروبيين، ثم يصدرها لنا، .. ما تعليقكم على هذه الحضارة؟
ـ ياسيدي إن ماحدث الآن، ومايزال يحدث منذ زمن هو أكبر عملية تزوير تاريخية، فالحضارة العربية العريقة التي هي أساس الحضارة بقدرة قادر أصبحت طفلة بليدة لاتعرف القراءة، والكتابة، وأمة تابعة ذليلة تسمع الكلام.
أما الحضارو الأوروبية الوليدة فأصبحت وياللأسف الحضارة الأم التي نقف أمامها فاغري الأفواه، ولو تحرينا الحقيقة لعرفنا أن حضارتنا العربية هي فقط الحضارة، أما الحضارة الأوروبية فهي حضارة زائفة صنعها السياسة، والكتبة والمأجورون، والإعلام الموجه.
ورغم عملية التزوير الدائمة التي يجريها الغرب لطمر الحضارة العربية كالإعلام، والتعليم، والمواقف السياسية، والغزو الثقافي، والعسكري ، إلا أن اللومكل اللوم يقع علينا كعرب، ففي الوقت الذي يجيد فيه الغرب الدعاية والتوجيه والتخطيط والمراوغة والتقد، مازلنا نحن "محلك سر"، نستند على تراث وتاريخ الأجداد، ونتشدق به، ولكن لم نقدم تاريخنا نحن.وفي الوقت الذي يتجه الغرب فيه نحو التوحد اقتصاديا وعسكريا في منظومات اتحادية رائعة، نجنح نحن إلى الفرقة والتشتت، لقد نجح الغرب في احتلالنا ثقافيا وفكريا، لا أحد يستطيع انكار ذلك، انظر إلى ثقافتهم وأفكارهم وعاداتهم التي دخلت عقر دارنا، من الجهات الأربع، من الباب والنافذة ومن السقف، والأرض أيضا، أنظر إلى الأسماء الأعجمية التي تملأ شوارعنا وطرقنا، ومعاملاتنا اليومية، والرسمية، أنظر إلى النظم والتشريعات الأجنبية التي جعلناها أساسا لنظمنا وتشريعاتنا، أنظر إلى كم الأسماء الأفرنجية التي أطلقناها على أبنائنا ، أملنا الوحيد في النجاة، والعادات الأجنبية التي طغت على سلوكياتنا العربية الأصيلة، أنظر إلى الأقمار الصناعية التي تبث لنا على مدار الساعة وبشتى المؤثرلا فكر الغرب وسهامه، واسأل بعد ذلك أين العرب من كل ذلك؟، وهل هناك سبيل للنجاة؟ .
الفعل .. الفرصة للخروج إلى الحضارة الكبرى
ـ الشعب العربي لا يقرأ إلا نزرا يسيرا، وقال أحدهم "إنه لايقرأ التاريخ"، لذا فهو يركن إلى الجدل البيزنطي في الدفاع عن حضارته، وكيف تفلسفون ذلك؟
ـ الشعب العربي لا يقرأ، ولكنه يتكلم كثيرا، لذلك فقد اشتهر عنا أننا أمة تتكلم أكثر مما تفعل، فما أجمل الكلام وما أقبح السعي والعمل من أجل تحقيقه.
وانحسار القراءة لدى الشعوب العربية مرتبط بعوامل أخرى سياسية واقتصادية، فالنهضة الثقافية لا يمكن أن تكون بمعزل عن الوضع الاقتصادي، والسياسي، فإذا كان الوضع الاقتصادي والسياسي على هذا الحال الذي نراه، فكيف إذن للشعوب العربية أن تطالب بنهضة قرائية حقيقية.
ورغم أهمية القراءة فإنني أعتقد أن الشعوب العربية تحتاج ليس فقط إلى القراءة أو الكلام، وإنما إلى الفعل، فقد تعبنا من اجترار الكلام، زنود أن نرى فعلا حضاريا يعبر عن هذا العصر الذي لم يقدم شيئا حتى الآن.
لن أكبح ذاتي وأنا أتدافع إلى مجد الذات
ـ نعلم أن شخصيتكم وجدانية أدبية راقية، بها من الهتان وأشرعة الطيبين، ومن بيادر الفأل والفن والبسمات، .. كيف كبحتم الذات وطوعتموها لتغدو هكذا .؟
ـ لم أكبح ذاتي يوما لتسير في طريق ما، فالشعر قدر ومكتوب، وهل يستطيع المرء أن يفر من قدره، وكتوبه، عرفت الشعر وكتبته، وأدمنته حتى صار يمشى في شرياني، وعرفت الصحافة ومارستها، وأدمنتها حتى صارت في جيوبي وحقائبي، وخزانة ملابسي، وتملأ الهواء الذي يحيطني، ومنذ أن عرفتهما وأنا اقبض في كفي اليمنى جمرة الشعر، وفي الأخرى جمرة الصحافة. أحاول الاختيار بينهما ولا أستطيع، وعندما ترهقني المحاولة أكف عنها، وأدرك في النهاية أنني الوحيد الذي يعشق حبيبتين.
وضع الله داخل كل شخص المقومات المهارية والنفسية والشخصية التي تدفعه إلى طريقه، أضف إلى ذلك الإرادة التي هي المحرك الرئيسي لأي عمل إيجابي، والأمل الذي هو المسوغ الوحيد للحياة. أحيانا أفكر وأتساءل .. لماذا هذا الطريق الصعب، ولماذا هذا الوجع اليومي، ولماذا نحن فقط معشر الشعراء نحمل هموم الآخرين؟، وأتصور لو يمكنني التراجع، ولكن هيهات ..، فقد احترق وجهي وجسدي بالشعر، وانتهى الأمر.
والتراجع هنا أصبح كتراجع الجندي في الميدان، إن فعلها يصبح من حق قائده أن يطلق عليه الرصاص، إنه كما قلت قدر ولا يمكن للانسان أن يفر من قدره ومصيره.
أتحرى الصدق .. ثم أصنع القرار
ـ النجاح في عطاءاتك وقراءاتك .. هل يذكرك بالصباحات بكل ألوانها، ويواكب نجاحك في معطياتك ونأليفاتك، ونظمك للعبارة بكل العطر والندى؟
ـ يختلف مفهوم النجاح لدى المبدع عنه لدى الآخرين، ففي الوقت الذي ينحصر النجاح لدى الإنسان العادي في الأحداث التقليدية كإحراز درجات أعلى في فصل دراسي، أو تقلد مكانة مرموقة أو غيرها، إلا أنه يمثل في ذات الشاعر حدثا مختلفا، فالمبدع كونه إنسانا يعني بما يعني به الآخرون، إلا أن النجاح لديه يختلف.
نجاح المبدع يكمن أساسا في إبداعه، في الفكرة التي يكتبها، وتحدث تأثيرا في النفس، أو تغييرا في سلوك، أو تحريضا لأمة، هذا هو مطمح المبدع وقمة نجاحه. وفي سبيل ذلك ينزف الكثير، وفي قمة النزف تكون قمة النجاح.
أما عني فرغم نزفي القديم، ورغم ما يرصده الآخرون لدي من نجاحات، إلا أنني أرى ـ تحريا للصدق ـ أن نجاحي الحقيقي لم يتحقق بعد.
بعد بسم الله التفكر والتدبر ثم نتبوأ مكانا تحت الشمس
ـ "اقرأ باسم ربك الذي خلق" .. آية عظيمة .. كيف تدفع ذاتك فيما تتجلاه من عظمة؟، وكيف تسوقك الآية إلى بهاء حياتك العلمية والعملية؟
ـ هذا التوجيه الإلهي الأول للمسلمين، يكفي جدا للدلالة على أهمية القراءة لدى الإنسان، إذ هي أصل المعرفة، والمعرفة أصل الحياة، والقراءة هي الحد الفاصل بين العلم والجهل، والنور والظلام، والبوح والصمت، والقهر والحجرية، وهي أيضا الفعل الأساسي في تطور البشرية.
وفي عصرنا الحالي، وبعد تطور وسائل الاعلام المرئي والإذاعي، وانتشار الساحة بضروب شتى من مصادر المعرفة، انحسرت القراءة وتقلصت، ورغم ذلك سيظل الكتاب أساس المعرفة الإنسانية، والأبلغ تأثيرا وتوثيقا في المجتمع، والآية الكريمة والتي بدأها تعالى بفعل القراءة تجمع في ثناياها معاني عدة، منها الفكر والتدبر في قدرة اله عز وجل، وليتنا جميعا نقرأ لنزيح عن عقولنا الجهل، وننطلق على صعيد العلم، ونتبوأ مكاننا تحت الشمس.
أما عني فللقراءة عندي منزلة خاصة، لعل أبلغ دليل عليها زجاج نظارتي السمبك، وإن كان عملي الصحفي وديمومته قد ساهما في تقليص مساحتها، إلا أنني إذا عممت مفهوم القراءة، إلى كل ما تقرؤه العين، سأخلص إلى نتيجة هامة وهي أنني في حالة قراءة دائمة.
أحمل الوعي الكامل وأكتب للإنسانية
ـ في نظمك للشعر، وحبكك للمقالة .. كيف تقوم فكرك؟، وكيف تتأبط العبارة؟، واللفظ والسلوك والتنشئة اللفظية؟
ـ تمثل الحالة الإبداعية حالة خاصة، وهي لا ترتبط لدي بمعان مجازية، كالغيبوبة، واللامعقول، كما ترتبط عند البعض، فالحالة الإبداعية لدي حالة بالغة الخصوصية، فأنا عندما أكتب أكون محملا بالوعي الكامل والمسؤولية، لأنني عندما أكتب أعلم أنني لا أكتب لقرية أو مدينة أو محافظة أو وطن، وإنما أكتب للإنسانية كلها، وأن الكلمة التي أكتبها ستؤثر عاجلا أم آجلا في فرد أو مجتمع أو أمة.
ولحظة الكتابة لدي تأتي عندما أجد نفسي مدفوعا برغبة البوح والكتابة، فأمسك بالقلم وأكتب، ويأتي الإبداع عندها كما يحلو له، وكما يشاء، في أي ثوب، قصيدة، أو مقالة، أو دراسة، دون توجيه مني أو وصاية.
الشعر منبع الفنون الأدبية
ـ القصة، الرواية، الشعر، .. هل يبقى أريجها مضاء في ثنايا عطاءاتكم، وأبحاثكم، ومؤلفاتكم؟
ـ لدي اعتقاد هام وهو أن الفنون الأدبية جميعها بنيت على أساس واحد، وتفرعت من منبع واحد هو الشعر. ولكن كل فن أدبي تبلور، وحدد شكله، ومقوماته، تبعا لعوامل مختلفة.
وتبقى اللغة الشاعرة هي الموحية القاسم المشترك في كل فنون التعبير الأدبية، كالشعر والمقالة، والقصة والرواية والمسرح، والمبدع الحقيقي قادر على الكتابة في كل فنون التعبير، ولكن الظروف المختلفة تدفع المبدع إلى كتابة لون أو ألوان معينة، من الإبداع.
أما عني فأكتب الشعر والمسرح الشعري، والمقالة، والدراسة النقدية، وقديما كانت لي محاولة واحدة قصصية لم تتكرر، بينما لم أكتب الرواية. عموما يشكر المبدع ويقدر إذا كتب لونا واحدا في ظل مشاغل الحياة، وقسوة الظروف التي يعيشها الأيب في العالم العربي.
مواقع التواصل الاجتماعي مواقع تجسس تبيع بيانات المستخدمين
نعم
69%
لا
20%
لا أعرف
12%
|
المزيد |