منذ أمد بعيد وللقوة مفهوم واحد محدد، فالبقاء للأقوى هو الشعار السائد منذ العصور البدائية القديمة، ذلك الشعار الذي ظل راسخاً عبر العصور المختلفة، وانعكس في كثير من الأحيان على ما أنتجته هذه العصور من مظاهر وأفكار لذلك ارتبط مفهوم القوة مباشرة بمفردات الدفاع والغلبة والمنعة ضد الآخرين ، وغيرها من المعاني التقليدية التي تنبع من اعتقاد قديم وهو أن القوة منبعها الجسد .
ومع التطور الحضاري للإنسان، وبروز دور العقل البشري في الحياة اختلفت مفاهيم القوة، وتعددت، فلم تصبح القوة هي مجرد قوة الجسد، ولكن برزت إلى جانب ذلك قوة العقل الإنساني الذي ميز الله به الإنسان على سائر المخلوقات .
وفي عصر المدنية الحديثة ظهرت وجوه أخرى للقوة، ففي عصر الأقوياء – الأقوياء فقط – برز العامل الاقتصادي في تقدم المم وقوتها ، فلم تعد القوة فقط هي قوة العتاد والسلاح والجيوش العديدة ، ولكن برزت إلى جانب ذلك القوة الاقتصادية بثقلها وأهميتها ودورها في مستقبل الشعوب ، وأصبحت قوة الأمم تقاس في الأساس – بقوى كياناتها الاقتصادية القادرة على الصمود وسط الكيانات الكبيرة .
أدركت الدول الواعية أن القوة العسكرية ليس بمقدورها وحدها أن تحقق رخاء الشعوب، وليس بمقدورها وحدها أن تحقق القوة والمنعة، وأدركت أهمية القوة الاقتصادية في منظومة العالم الجديد .
وقد استوعبت الدول الأوروبية هذه الأهمية جيداً، فسعت إلى تحقيق الوحدة الاقتصادية بينها، وقد أثمر ذلك الوعي العديد من الإنجازات منها إنشاء السوق الأوروبية المشتركة التي كان لها أكبر الأثر في دعم الاقتصاد الأوروبي وتقوية نفوذه، وقد أثمر أيضاً هذا الوعي العديد من الإنجازات في محيط الدول الأوروبية منها إزالة الحدود الاقتصادية فيما بينهما، وتوحيد المناهج الاقتصادية، وتخصيص عملة أوروبية موحدة.
والوحدة الألمانية التي كتب لها أن تتحقق وتصبح واقعاً ملموساً بعد أن ظلت لسنوات عديدة حلماً يراود الكثيرين، لا شك أن لهذه الوحدة أهميتها وانجازاتها، هذه الوحدة التي قال عنها أبو الاقتصاد الألماني لودفيج إيرهاد عام 1953م (أنها ستطلق قوة جبارة لا يحلم بها الحاسبون والمخططون).
استطاعت اليابان بعد إلقاء القنبلة الذرية عليها عام 1942 م أن تنهض من كبوتها وأن تحتوي الخسائر المميتة التي أصابتها، وأن تحقق المعجزة الاقتصادية الكبرى التي يتحدث عنها العالم ، لم تحقق اليابان هذه المعجزة بالكلاشينكوف والكاتيوشا والقنابل العنقودية والنووية، ولكن حققتها بإرادة الإنسان الخلاقة ، رغم أنها كانت إلى عهد قريب جداً لا جيش أو قوة عسكرية ، ولقد حصلت اليابان على القوة الاقتصادية، وهذه القوة هي التي مكنتها من أن تتبوأ مكانتها في عالم الأقوياء لقد تقدم العقل فأبدع وأنتج للحضارة الإنسانية فاستحق القوة .. القوة .. الحقيقية ..!!
مثال آخر يتجسد لنا في سويسرا وهي دولة منزوعة السلاح ، وكلنها استطاعت أن تكون مركزاً اقتصادياً مهماً في العالم وصارت لمنتجاتها شهرة عالمية، ولعل أشهر منتجاتها الساعات التي لا نرى لها مثيلاً في العالم .
وعلى جانب آخر تبذل العديد من الدول النامية الجهود الدؤوبة لإصلاح اقتصادياتها عن طريق تنمية مواردها المحلية، وسد العجز في موازناتها، وإحداث تغييرات في سياستها المالية هدفاً فلإصلاح الاقتصادي .
والعجيب أنه في الوقت الذي يتجه فيه العالم إلى هذه التكتلات الاقتصادية العملاقة مازال العرب داخل القوقعة وكأنهم في واد آخر ، منعزلين عن هذه التغيرات الاقتصادية الهائلة التي يشهدها العالم، ومازالت عقلية التفوق العسكري سائدة.
ومن حين لآخر تبرز الدعوات في الوطن العربي للوحدة الاقتصادية والتكامل الاقتصادي وإنشاء سوق شرق أوسطية لكنها – أي الدعوات – سرعان ما تخبو وتذهب أدراج الرياح، وما تحقق من هذه الدعوات لم يكن أكثر من تكاملات ثنائية شكلية حماسية بعضها تفرق وبعضها استمر ، ولكنها جميعاً لم تكن على القدر المأمول من الجدية والواقعية.
ومازال أمام العرب الكثير للحاق بالركب الاقتصادي العالمي، ومازالت هناك العديد من الخطوات التي يجب أن نخطوها لتحقيق حلم الوحدة الاقتصادية العربية ، وهو حلم لن يتحقق إلا بوحدة الرؤية والمصير والأهداف ، والنية الصادقة في وجود عالم عربي قوي يقف بثبات وقوة أمام التكتلات الاقتصادية العالمية .
ولا شك أن العالم العربي قادر على تحقيق هذا الحلم، وذلك بأن يعي أولاً مربط الفرس، وهو أن القوة الاقتصادية هي القوة الحقيقية !!