لغتنا العربية طيعة ثرية تجمع في خزائنها العتيقة التي تشبه خزائن "علي بابا" ملايين الألفاظ التي تصل إلى المعنى المطلوب بدقة متناهية لا تراها في لغات الأرض قاطبةً، وهو كنز يجب أن نسعى لاكتشافه، وقد أضافت العامية العربية للغة ثراءً خاصاً بتغلغلها بعفويتها وبساطتها إلى مكامن التعبير الإنسانية الغائرة.
واللغة كائن حي ينمو ويكبر ويمرض أيضاً، وهو يجدد دائماً شبابه ومفرداته تبعاً للواقع المعاش، ولكن الواقع يثبت أن انضمام لفظة جديدة للتعبير إلى اللغة الأم لا يتم بين ليلة وضحاها، وإنما يستغرق أعواما طويلة من عمر الزمن ، وقد تستحدث المعاجم اللغوية ألفاظاً معينة، ولكن الحس الشعبي لا يتقبلها، فتبقى خارج التعابير.
فالعقاد مثلاً كان أول من استخدم لفظة "التلفاز" تعريباً للفظة "التليفزيون"، وقد أجاز مجمع اللغة العربية بالقاهرة هذه اللفظة، ولكنها حتى الآن ورغم مرور سنوات عديدة على وفاة العقاد ما زالت الكلمة نادرة الاستخدام.
ولكن أهل الاقتصاد – حفظهم الله – من أكثر الناس تمرداً على اللغة واختراعاً للتعبيرات الجديدة، وعلى الرغم من أنهم لا يخترعون، إلا أن لهم السبق في استحضار الألفاظ الفصيحة غير الشائعة وتقديمها بشكل جديد.
وإذا وددت أن تتأكد من ذلك أنظر إلى القاموس الاقتصادي ستجد العديد من هذه الألفاظ والمصطلحات التي يقتصر استخدامها على عالم الاقتصاد، من هذه الألفاظ "الخصخصة"، "العولمة"، "النمور الاقتصادية"، .. وغيرها..
الخصخصة .. تركيبة لفظية طريفة استحضرها الاقتصاديون من غياهب القواميس ومنحوها البريق فحققوا لها الرواج ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، وإنما على المستوى العام، ولا أدري لماذا لم تستخدم كلمة (تخصيص) الأيسر نطقا والأكثر شيوعاً بدلاً من لفظة "الخصخصة" التي تفتقر إلى مقومات الفصاحة التي نص عليها عبد القاهر الجرجاني في كتابة (دلائل الإعجاز).
ومن التعبيرات الجديدة أيضاً التي برزت مؤخراً تعبير "العولمة" هذا التعبير الذي لا نجده إلا في عالم الاقتصاد، ولا أدري أيضاً لماذا لم يستخدموا لفظة "العالمية" ما دام الأمر يحتاج إلى مضاف إليه سيقع عليه الفعل سواء أكانت العالمية أو العولمة ..؟
نفس الأمر نراه في مصطلح "النمور الاقتصادية" ولا أدري أيضاً لماذا النمور، ولماذا لم نقل أسود مثلاً باعتبارها ملوك الغابة ..؟، يحضرني هنا مصطلح في نفس الاتجاه وهو "القطط السمان" الذي شاع في نهاية السبعينات وكان أول من أطلقه الرئيس السادات يرحمه الله، ويحضرني أيضا لقب "حوت" الذي راج مؤخراً في السياقات الصحفية عن بعض المخالفين في مجال العقارات، فهذا "حوت" مدينة نصر، وهذا "حوت" مصر الجديدة ..!، وقد دخل هذا المصطلح الأعمال الفنية ففي إحدى المسرحيات تقول ممثلة لصديقتها (خطيبي حوت يا خواتي حوت) ..!
على نفس المنوال نجد لفظة (الرساميل) التي لا نراها إلا في عالم الاقتصاد، وهي لفظة معجمية صحيحة، وهي جمع لعبارة (رؤوس الأموال)، ومن الغريب أيضاً أنها لا تستخدم إلا في اللغة الاقتصادية ..
فما هو السر إذا في ذلك، وهل يمكن أن نقول أن الاقتصاديين معقدين يلجأون إلى التعقيد الاصطلاحي والتعبير عن قضاياهم بحذلقة، أم أنها مجرد مصادفات صياغية فرضت نفسها دون ترتيب ..؟!
ومع تسليمنا بأن هذه التعبيرات اخترقت حياتنا اختراقاً من بوابة الاقتصاد البراقة التي نتطلع لها بانبهار، واحتلت مكانها أمام أعيننا من خلال وسائل الإعلام المختلفة، إلا أنه من الصعوبة بمكان نفاذ هذه المصطلحات إلى القاموس اللغوي العام، حتى لو كان ذلك على سبيل الاستعارة , كأن نقول مثلاً (خصخصة الإبداع)، أو (عولمة الحب)، أو (النمور الثقافية)..
ولكن يبقى للاقتصاديين – كما قلنا – السبق في تقديم مصطلحات جديدة مبتكرة وطريفة في نفس الوقت تعبر عن ظواهرهم الاقتصادية الخاصة، يلهيهم في ذلك الأدباء المولعين دائماً باختراع واشتقاق المصطلحات الجديدة كالبنيوية والتكعيبية والتفتيتية والتجريبية والسطوحية (مشتقه من سطوحي) وغيرها ..، وتبقى هذه الظاهرة مؤشراً على حركة اللغة التي لا تهدأ أبداً ..!
حبيبتي .. كم أتمنى أن أتمكن من "خصخصة" قلبك، و"احتكار" حبك ومشاعرك، لنكوّ معا "نمرا" عاطفيا في عصر "التكتلات" العاطفية، وننجح معاً في "عولمة" الحب ..!