دعاني صديقي مفتش الآثار أحمد منصور إلى زيارة المتحف المصري، فوجدتها فرصة لأدخل هذا المتحف العالمي وأزور أجدادي الأعزاء الذين ترقد مومياواتهم تتحدى الزمن في قاعة المومياوات الملكية .
بدأ صديقي في الشرح وأنا استمع بإنصات إلى صدى التاريخ ، وأستفسر من حين لآخر فيرد صديقي باستفاضة، ويعطي المعلومة الكاملة التي تروي الفضول أحياناً. وتزيده أحياناً أخرى ..، ثم ننتقل إلى جزء آخر من أجزاء المتحف .. وهكذا .. ونحن مبهوران بهذه الآثار الخالدة .
في لحظة ما .. فاجأتني الجميلة .. فتوقفت عيناي على وجه ملائكي لم أر مثله قط ، نظرت إليّ بينيها الواسعتين اللتين تشبهان عيون المها، وخدها الأسيل الناصع البياض كاللبن ، وشعرها الأسود الفاحم تأسره (توكة) بيضاء مزركشة كأنها تاج فرعوني رقيق ، وجيدها الظالم مزدان بعقد عريض ملون يخفي تفاصيل يجب أن تُحكى، والناهدان النابضان يعلنان عن نفسيهما في عزة وشموخ .
أومأت الجميلة إليّ بابتسامة رقيقة ، ونهضت بهدوء من مقعدها الأبيض .. يداها مشغولتان بضبط فستانها الجميل الذي (كسَّرتهُ) جلستها الطويلة ، .. قالت : من أنت ..؟ فعقدت الدهشة لساني ولم استطع الإجابة ، فرنَّت شفتاها الورديتان بضحكة عفوية جميلة وكررت السؤال: من أنت..؟ ، فأجبتها : الأمير ، وأردفت سائلاً : وأنت ..؟ ، قالت وهي تعدل قصَّة شعرها المنسال : نِفرت، فأجبت مندهشاً : ماذا..؟ فأسفر وجهها الرائع عن ضحكتها الجميلة وأعادت بنعومة الأنثى : نِفرت ، فسألت : وما سر هذا الاسم الغريب ؟ قالت : اسمي معناه "الجميلة" وهو اسم مشهور لدينا .
فأجبت وقد قررت الدخول في عمق الحدث: هل تؤمنين بالحب يا نِفرت ، قالت وقد أدركت بفطنتها ما أرمي إليه : نحن لا نحيا إلا بالحب، أردفتُ : الحب من النظرة الأولى .. ؟ قالت : الحب قبل النظرة الأولى ، فأجبت متعجباً : كيف، قالت : نحن نؤمن بأن الأرواح تتسامى وتتلاقى وكل روح تبحث عن نصفها الآخر حتى تلتقيه، فهتفت : يا ربي لقد وجدتك ، ضحكت ضحكتها المورقة المفعمة بطعم السكَّر ثم صمتت وقالت في صوت يشبه همس عصفور رقيق ذات أصيل: وأنا أيضاً وجدتك..!!
فأجبت بلهفة الظامئ الذي وجد أخيراً النهر العذب : أين كنت يا مليكتي لقد بحثت عنك كثيراً، جبت كل الدروب والبحار والمفازات والموانئ أبحث عن وجهك الطفل، قالت: وأنا أيضاً بحثت عنكَ يا أميري .. جبت كل المدن والعصور والأزمان أبحث عن قلبك الطيب.
مددت يدي لأحتوي يديها الرقيقتين قائلاً: أين أبوك لكي اطلب منه الآن يدك المرمرية، قالت وقد أشاحت بوجهها اللافت عني مستغرقةً في نظرة حزن عميقة: آه يا أميري لقد كتبت علينا الأحزان وكتب علينا الشتات للأبد، فقلت وقد استبد بي القلق: كيف يا مليكتي؟، قالت: نعم أميري فبعد السنين الطوال وأنا أبحث عنكَ وبعد أن أعياني البحث في كل العصور والأزمنة أجبرني أبي على الزواج من أحد أصدقائه الأغنياء فكانت رحلة الشقاء والعار الذي أحمله حتى الآن..!؟
عقدت المفاجأة لساني فقاومت حدِّ الفجيعة قائلاً : مهما حدث يا مليكتي لن أتركك، ولن تستطيع قوة أن تفرق بيننا ، فأنت قدري الذي طالما بحثت عنه، فقالت: آه أميري .. تماماً كما تصورتك محباً عنيداً .. ولكن ..!!
انتبهت على صوت زميلي مفتش الآثار يربت على كتفي مازحاً: إيهِ أيها الشاعر هل أعجبتكَ (نِفِرتْ)، فالتفتُ له مندهشاً معيداً النظر إلى الجميلة التي عادت إلى مقعدها الأبيض مستغرقةً في صمتها الأول، فأردف صديقي : لا عجبَ في ذلك فعلى مر الأزمان كان لنِفِرتْ عشاق عديدون .
أجبته وقد أفقت من المفاجأة: المهم أنها أحبت من..؟ وكما يقول الشاعر : كلنا بنحب القمر ، والقمر بيحب مين..، انفجر صديقي بالضحك .. وواصلنا المسير، وأنا من حين لآخر التفت إلى الجميلة المستغرقة في الصمت حتى غاب وجهها الباهر بين التماثيل العتيقة..!