تبرز من حين لآخر قضية من أهم القضايا وهي قضية الإبداع وحدوده والإطارات والضوابط التي يجب أن يعمل داخلها الأديب، وهي نفسها قضية الحرية في الإبداع الأدبي، هذه القضية القديمة التي نوقشت وشبعت مناقشةً وجدلاً على مر العصور، وها هي تعود من جديد بشكل أكثر وضوحاً وصخباً، فظهرت قضية الدكتور نصر أبو زيد أستاذ الجامعة الذي حكمت عليه المحكمة بالتفريق بينه وبين زوجته استناداً لتجاوزات دينية بدرت من الكاتب في دراساته وبحوثه حول الفقه والشريعة وغيرها من الأمور الدينية، هذه التجاوزات التي جعلته بحكم المرتد في الشريعة الإسلامية مما استوجب هذا الحكم الأول من نوعه في القضاء المصري.
ومنذ فترة اشرأبت قضية أخرى وهي قضية الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة الشهير حيث اتهمه أحد رجال الأزهر الشريف بنفس التهمة واستند في ذلك إلى نصوص وآراء وبحوث احتواها كتب حنفي نفسه بعد دراسة طويلة لمشروعه الفكري، وانتهى إلى أن كتابات حنفي خطر على طلاب العلم ويجب منعها ومحاكمتها.
وهذه القضية كتبت عنها تحقيقاً صحفياً عام 1986 بعنوان (التوظيف السيئ للمعتقدات الدينية في الشعر .. جريمة أدبية ..!)، ورغم سعادتي الشخصية لأن المجتمع أخيراً بدأ في الدفاع عن قيمه مبادئه وبادر بالموقف العلمي الذي يكفل له هذه الحماية، إلا أنني أرى أن هذه الخطوة تأخرت كثيراً، ولا يفهم من ذلك أننا ضد حرية الإبداع، فنحن أول المنتصرين لها، ولكن الحرية عندما تكون ضد الله ورسوله وضد المبادئ والقيم، فبئسَ هي من حرية.
ولكن من الإنصاف أن نقر بأهمية دراسة الحالة قبل الحكم عليها وأن نتحرى الدقة ونبتعد عن الظن، وأن نتبين الأمر جيداً حتى لا نقع في الإثم، وحتى لا نكون مثل محاكم التفتيش القديمة التي كانت تصدر أحكامها الطائشة لضرب أعناق الأعداء والمنافسين.
وفي رأيي الخاص أن هناك فئتان يجب التعامل معهما والتفرقة بينهما في هذا الصدد وهي : فئة آثمة بالفعل، وفئة أخرى شاطحة، وقد أوردت كلمة الشطح هنا لقربها من المعنى المراد، ففي الصوفية يقولون: شطح الصوفي أي تجاوز في عبادته وحبه للذات الإلهية فوصل إلى الحدود المحرمة، فنادى بالحلول والاتحاد إلى غيرها من الخزعبلات الشيطانية!
أما الفئة الأولى فهي بالفعل تستوجب الردع والعقاب حسب ما تمليه الشريعة الإسلامية، أما الثانية فهي فئة مُضلَلَّةَ لم تع جيداً المفهوم الحقيقي للإبداع فوقعت في التجاوز المحظور وإن لم تؤمن به ولم تع خطورته ..؟! ، فعلى سبيل المثال – وهذا ليس دفاعاً عن د. حنفي – فإنني اعتقد أن في الأمر مبالغة فقد قابلت المذكور منذ أكثر من عشر سنوات وأجريت حديثاً صحفياً معه، ولم ألحظ في حديثه المطول الذي نشر في جريدة (الحياة) أي أثر للصفة التي رمي بها، فالرجل مؤمن معتدل وربما يكون سبب توجيه هذا الاتهام له الشطح البحثي والإبداعي الذي يقع فيه الكثيرون.
وإذا تفحصنا جيداً تاريخ الإبداع المعاصر سنجد أقلاماً عديدة تجاوزت في نصوصها وشطحت فأوردت عبارات ومواقف ضد الدين والأخلاق، وبعضها أسماء شهيرة في حياتنا الثقافية يمكن معرفتها بسهولة باستقراء أعمالها في المجالات الإبداعية المختلفة.
والمبدع حينما يشطح غالباً ما يكون هدفه أساساً التجاوز الإبداعي وإحراز الجديد والإتيان بما لم يأت به الأوائل كما يهدف إلى إحداث حالة الإدهاش لدى القارئ إما لدواع إبداعية أو لدواع استعراضية، وأحياناً يكون ذلك تقليداً للإبداع الغربي الذي لا تحكمه ضوابط دينية أو أخلاقية في كثير من الأحيان، فتكون نتيجة ذلك عبارات ومواقف متجاوزة ضد الدين أو العرف أو الأخلاق.
والأمثلة على ذلك كثيرة، يقول أمل دنقل في إحدى قصائده:
(والتين والزيتون والبلد المحروق)، (العاديات – كما قيل – ضبحا)، وهو توظيف غير مقبول لآيات قرآنية كريمة، ويقول نزار قباني : (عمر حزني مثل عمر الله أو عمر البحور)، وهي أيضاً صورة فجة لا تناسب الذات الإلهية جلت وعلت، وهناك عبارات أخرى أفدح نقرأها في كتابات بعض الأدباء المعاصرين نتحرج من ذكرها غيرةً على الله ورسوله، يقول أحدهم "والعياذ بالله" : (الله محضُ بعوضةٍ في كعب جندي بالجليل) ..!.
ويقول طاهر رياض (شاعر سوري) في إحدى قصائده:
(حين كان الله طفلا ما يزال
كانت الأرض سماءً
والسما
دمية يلهو بها الأطفال)
ويقول في قصيدة أخرى:
(كأن الله بعدي ما تجلّى
على فرحٍ كأنّ الله شاخا)
والأمثلة عديدة ومؤلمة ومقززة ..
وفي نفس الاتجاه يحرص بعض الشعراء على الاستشهاد في قصائدهم بفقرات من الإنجيل والديانات الأخرى، ففي بعض الأحيان تقرأ قصيدة لأحد الشعراء المسلمين فتجد عبارات مثل (حزقيان، أشعيا، نصوص من العهد القديم)، ولا أدري ما هو المسوغ لذلك والهدف منه، هل هناك ضرورات فنية أم هي الرغبة في الادعاء الثقافي ..، أتذكر أيضاً نصيحة غريبة لأحد الأدباء الزملاء والذي طلب مني الإطلاع على الإنجيل وتوظيف نصوصه في شعري ..!!
إنهم يبحثون عن التجاوز الإبداعي فيقعون ويا للهوان في التجاوز الديني والأخلاقي، وفي رأيي أن معظم الأسماء المتهمة في هذا الصدد هي أسماء مؤمنة بالله ورسوله وليست مرتدة، وإنما أسماء مُضلَّلَهٌ لعدم معرفتها بالحدود الحقيقية الخاصة بالإبداع، وهذا يوسع دائرة المسئولية لتشمل أطرافاً عديدة ..!
إنني أدعو الساحة الأدبية والبحثية إلى وضع ضوابط للإبداع وحدود تمنعه من الشطح والوصول إلى التجاوز الديني أو الأخلاقي، وتوعية كل من يمسك القلم بذلك حتى لا نفاجأ في لحظة معينة بنصف الشعراء والأدباء والباحثين متهمين بهذه التهمة الخطيرة .. الخطيرة جداً ..!