لا أجد تفسيراً منطقياً للتعصب الموجود الآن في الساحة ضد القصيدة العمودية ولا أجد مبرراً واحداً لهذا التجاهل لها من بعض أهم مؤسساتنا الثقافية، لقد رحبنا بالحداثة كتطور طبيعي للفنون وآمنا أن الحداثة كروح وأسلوب قديمة قدم الشعر الجاهلي ولم تخترعها القصيدة التفعيلية أو زميلتها النثرية، ورحبنا دائماً بالأشكال الإبداعية المختلفة لإيماننا أن الفيصل هو التجربة الشعرية الإبداعية الصادقة، وأن الشكل ما هو إلا إطار لهذه التجربة.
ولكن المثير للعجب أن نجد البعض وهم كثيرون يعادون "القصيدة العمودية" ويرمونها بتهم عديدة كالسطحية والتقليدية وعدم مواكبتها "لروح العصر"، ويتضح هذا التعصب في النقاش المباشر أو الندوات الثقافية أو الصحافات الأدبية أو السلاسل الثقافية التي تعني بنشر النصوص الإبداعية.
أعلم أنني بذلك أواجه العاصفة وأحصد عداء أنصار التفعيلية الأعزاء المهيمنين – بلا حسد – على مقدراتنا الثقافية، ولكن رأيي هذا يستمد مشروعيته ونزاهته لكوني شخصياً أكتب الشكلين العمودي والتفعيلي.
ومازلت أتذكر نقاشاً دار بيني وبين أحد الزملاء المشرفين على أحد الأبواب الأدبية حيث فوجئت بهجومه العنيف على العمودية ونفيه صفة الشعر عن أحد كبار شعرائها، مع أنه لو قضى عمره فلن يستطيع كتابة قصيدة ترقى إلى إبداع هذا الشاعر الكبير ..!!
إن المتابع للصحافة الأدبية الآن سيجد انحيازاً واضحاً للنص التفعيلي لا أدري لماذا ..؟، حتى ولو كان النص ضعيفاً سطحياً لا يعي كاتبه المقومات الحقيقية لشعر التفعيلية .. مليئاً بالأحاجي والألغاز، لقد اعتبروا الغموض ثقافةً ووعياً وعلامة على تجاوز ثقافي للمعرفة، لقد أخذنا الانبهار بالجديد وأعمى عيوننا التعصب، وصدقنا الإشاعة الكاذبة التي تزعم بأن التفعيلية هي الإبداع ودونها الركاكة والهزال والكرب العظيم ..!!
لا ننكر أن هناك قصائد عمودية ضعيفة الفكرة والبناء وتفتقر إلى الإبداع، ولكننا لا نستطيع أن ننكر أيضاً أن هناك قصائد تفعيلية غاية في الركاكة والضحالة لغة وأسلوباً، موغلة في الغموض الجاهل غير المستأنس.
والقصيدة العمودية – المفترى عليها – هي أساس الشعر العربي شئنا أم أبينا رغم عدم تحبيذي لأسلوب التفضيل، فالفنون كلها مبدعة وقادرة على التأثير مهما تعددت أشكالها، وهي تنفق جميعاً في الهدف والرسالة، والمحك الوحيد هو الإبداع والتجربة الإنسانية والإبداعية الخلاقة.
والقارئ الذي تختلف وتتنوع مشاربه وثقافاته تتنوع أيضاً أذواقه، وكما يوجد القارئ الذي ينفعل بتجربة عميقة المعنى قوية الإيحاء، هناك القارئ الذي ينفعل ويتأثر بتجربة عمودية سلسلة بسيطة المعنى والدلالة، كما يوجد أيضاً على الجانب الآخر القارئ الذي لا ينفعل بهذا أو ذاك ..، تلك هي طبيعة البشر التي لا يمكن تغييرها وتبديلها تبعاً للأمزجة والأهواء ..!
حتى السلاسل الثقافية التي من وظيفتها تمثيل كافة تيارات الإبداع لم تنج من هذا التعصب فلننظر مثلاً إلى السلاسل الإبداعية التي تصدرها (الهيئة المصرية العامة للكتاب) كنموذج، سنكتشف طغيان النص التفعيلي وندرة النص العمودي.
وأذكر أنني قرأت في أحد المرات عبارة على غلاف إحدى السلاسل التي تصدرها (الهيئة العامة لقصور الثقافة) تتعصب للنص التفعيلي وترمي بجهالة النص العمودي بالتقليدية والسطحية وتعجبت حينها من الشخص المسئول الذي بادر بكتابة هذه العبارة على غلاف سلسلة ثقافية يجب أن تعني بالإبداع أياً كان شكله ولونه، ولكن المسئول جزاه الله خيراً تدخل بهذه العبارة التي لا تنطق إلا بثقافته الضحلة المنحازة المتأثرة بالضجيج الإعلامي ليفتي (وما أكثر الفتاوى الثقافية في عصرنا هذا) بأن النص التفعيلي الحديث هو الأرقى والأجمل، ويا لها من جناية ومصادرة لفكر المبدع والقارئ معاً.
ومازلت أذكر أيضاً حواري مع أحد أصحاب دور النشر الخاصة التي لمع اسمها في الفترة الأخيرة ورأيه الذي أدلى به ضمن نقاش عام والذي يتلخص بأن القصيدة التفعيلية هي الأهم والأروع والعمودية تقليدية ومكرورة .. و.. "متخلفة" ..!!
وكعادتي في مثل هذه الحالات عندما أرى الشخص الذي أمامي جاهلاً أصيلاً أعزف عن مناقشته فأنا لا أناقش وأجادل الشخص إلا إذا شعرت بأنه يريد أن يتعلم ويجتهد بأمانة ويسعى بجد نحو الصواب.
إن القصيدة العمودية – إذا استخدمنا أسلوب الأفضل والذي لا أحبذه نهائياً، ومع اعتزازنا بكل الأشكال التعبيرية – هي ديوان العرب والسجل الحافل الأصدق في التعبير عن النفس الإنسانية، ومهما نجحت التفعيلية وتطورت وأبدعت فلن تستطيع الوصول إلى حجم ما أنجزته القصيدة العمودية على مر تاريخها الإبداعي الطويل.
سوف تظل "العمودية" بالسلاسل والبساطة والعمق والموسيقى المتتابعة الشجية التي تميل لها النفس والكثافة والإبداع في المعنى والصورة، وهي كلها مقومات كتبت لها الخلود في الذاكرة الشعرية للعرب ولعل أهم مزاياها والتي لن نستطيع الوصول إليها شقيقتها "التفعيلية" – حفظها الله – هي قدرتها على التأثير في أكبر عدد من القراء الذين تختلف فئاتهم بدءاً من الجاهل إلى المثقف.
بل إنني أزعم بأن المجال الثقافي العام الذي رحب بالتفعيلية وهيأ لها سبل التواجد والانتشار هو نفسه المجال الذي سيعود مرة أخرى إلى العمودية – عشقة القديم – ويحتفي بها إبداعاً ونشراً بعد أن استنفدت التجربة التفعيلية – للأسف – أغراضها ورحل أكثر روادها، وبات أكثر شعرائها بعيدين كل البعد عن مقوماتها الحقيقية.