موسيقى الجاز تعلو صاخبة تخترق الآذان، والأجساد ترقص الرقصة الأخيرة، والصالة المستديرة ذات الأرضية المضاءة تضئ وتخفت وتضئ بسرعة .. والإيقاع المتسارع يرسم بموسيقاه ملحمة الجنون ..!، والليل يتخلى عن وقاره .. يهتز ويغني .. أووه مكارينا ..!
فتيات .. شباب .. عواجيز يرقصون رقصة النار، شاب وفتاة يرقصان معاً ويشكلان على الإيقاع الصاخب رقصات أكثر صخبا.. فتاتان مبسوطتان ترقصان معاً وفي يد كل منهما زجاجة من البيرة، فتاة نحيلة ترتدي الجينز ترقص لوحدها بانسجام وكأنها في عالم آخر، رجل كهل بشعرة الأبيض يرقص بدون هوادة وكأنه في العشرين من عمره، صبي عصّب رأسه بعصابة تشبه "المنديل أبو أوية" الشهير يبدأ في تقليد الراقص الأمريكي الأشهر مايكل جاكسون فيبادر زملاؤه بجدية بإفساح المكان له باليد متحلّقين حوله على شكل دائرة والشاب الذي يشبه الفأر يرقص بإخلاص منقطع النظير – وكأنه في مهمة وطنية – ويؤدي حركاته البهلوانية ..!
الديسكو أحد جوانب الموسيقى الغربية التي اخترعها الغرب لتواكب الشخصية الغربية القلقة المتمردة، ولهذه الموسيقى تاريخ حافل لا يقل عراقة وأصالة عن الموسيقى العربية، فالجاز جزء من الشخصية الأمريكية وليس مجرد فن من الفنون، وقد انتشرت موسيقى الجاز في العالم كله، ووصلت العالم العربي منذ مئات السنين، ولأننا نحن العرب محترفي التقليد فقد احتفينا بها، ولعل الدليل على ذلك وجودها في الأفلام المصرية القديمة الأبيض والأسود كجزء من المجتمع، فالبطل يراقص البطلة في قاعة الديسكو رقصة "التويست" الشهيرة، وعلى إيقاع الـ"سلو" يحتضن البطل البطلة، ويهمس في أذنها بكلمات الحب ..!
وربما يرجع انتشارها في المجتمع المصري إلى وضع مصر في هذا الزمان كمركز حضاري عالمي ومركزها السياسي والاقتصادي في المنطقة مما جعلها قبلة للتيارات الثقافية والحضارية من شتى بقاع العالم ومن ضمنها الفنون العالمية.
وقد دخل الديسكو ثقافتنا وفنوننا كما دخل حياتنا فتجده في الرواية والقصة، حتى الشعر أثر أن لا يتخلف عن التعبير عن هذا اللون من الرقص، ولعل قصيدة نزار "كلمات" دليل على ذلك ويقول فيها على لسان امرأة :
يُسمعني حين يراقصني / كلماتٍ ليست كالكلمات / يأخذني من تحت ذراعي / يزرعني في أعلى الغيمات) وهو هنا يصف حبيباً وحبيبة لا يرقصان عشرة بلدي بالطبع، وإنما يرقصان رقصة غربية هادئة، لأن الرقص البلدي أو الشرقي لا يتيح هذا الموقف الشاعري المثير.
دخلت الموسيقى الغربية حياتنا بدون استئذان، وأصبحت أحد عناصر الحياة الاجتماعية، تماما كما دخل حياتنا الهمبورجر وعصر الوجبات السريعة، وعرف العالم العربي فرقاً أجنبية مثل (البوني إم) و(البيتلز) أكثر من غيرها، ولا أدري لماذا ربطت بين موسيقى الجاز والظاهرة المصرية الشعبية المعروفة بـ"التفقير"، وقد حاولت أن أجد مرادفاً فصيحاً للكلمة مثل (التطوّح) مثلاً فلم استسغه، ولم أجد غير "التفقير" وهو المصطلح الشعبي الذي عرفنا به هذه الظاهرة بعد فشلي في معرفة مدلول الاسم أو من أين جاء اشتقاقه.
و"التفقير" أو "التطوّح" ظاهرة موجودة في التراث المصري الشعبي منذ مئات السنين، ففي الموالد والاحتفالات الدينية الشعبية يقف الرجال في صفوف متقابلة، وعلى إيقاع خاص ممزوج بالتواشيح والمدائح النبوية يقومون بهزّ الرأس والذراعين يمينا وشمالاً في حركات تقليدية وهم يذكرون (الله .. الله .. الله)، وفي كثير من الأحيان يغيب الشخص عن الوعي وهو في دوامة الذكر و"التفقير" ..!
وهذه الظاهرة نجدها أيضاً في "الزار" وهو عبارة عن طقوس شعبية يقوم بها بعض العامة، وفي اعتقادهم أنها تطرد الأرواح الشريرة، وتمنع الحسد، وتوقف السحر، وتحقق الرضا "للأسياد"، وفيها تقوم "الكودية" بقيادة مجموعة من النساء أو الرجال بالضرب على الدفوف بإيقاع خاص، ويقوم الحاضرون "بالتفقير" أو "التطوّح" على الإيقاع الصاخب حتى يغيبوا عن الوعي، وهي عادات انقرضت بانتشار الوعي في القطر المصري وفي ربوع مصر المحروسة.
نفس الأمر نجده في (الحضرة) .. والحضرة مصطلح يطلق على عدد من الأتقياء يذكرون الله في صوت جماعي ويسبحون بحمده، وتكثر بجلاء في الطرق الصوفية التي تنتشر في كافة بقاع مصر.
لست أدري لماذا ربطت بين موسيقى الجاز وظاهرة "التفقير" أو "التطوّح" الشعبية، ربما السبب في ذلك أن كليهما متشابهان، يعتمدان على الإيقاع الصاخب المتتابع، وحركة الجسم المتواصلة العنيفة، وولع الكثيرين بممارسة هذه الأنواع من الرقصات والإيقاعات.
وعلى الرغم من أنني شخصياً لم أتشرف بممارسة هذا الأسلوب في "التفقير" أو "التطوّح" إلا أنني شاهدت بنفسي ذلك في الموالد وحلقات الذكر الشعبية التي كانت تقام في قريتنا، وأعتقد أن هناك عاملاً نفسياً مهماً في هذه الظاهرة، فهذا الإيقاع الصخب المنتظم، وحركة الجسد رقصاً أو تفقيراً تسببان نوعاً من الانفصال الوقتي للنفس عن الواقع، فيشعر الإنسان بالراحة النفسية تماماً كالخمر والمشروبات الروحية. إذ أن سبب تمسك البعض بها اعتقادهم الخاطئ بتحقيقها لهذا الانفصال الوقتي والراحة النفسية المزعومة، ولعلك يمكن أن تتأكد من ذلك إذا سألت ممارسي "الرقص" و"التفقير" فتجدهم يرجعون ذلك إلى "الراحة النفسية" التي يشعر بها الممارس "للرقص" أو "التفقير" ..!
وهذه الظواهر تحتاج لا شك إلى علماء في النفس البشرية يضعونها على مائدة البحث لتقصي أسبابها وجذورها، والأثر الذي تحدثه في الإنسان، وكشف التأثيرات التي تحدثها الموسيقى على الإنسان وعلى وعيه ومداركه، خاصةً بعد انتشار موسيقى "الهارد روك" وما تردد من أنها تصل بالمستمع لها إلى درجة من الدرجات يصبح فيها مسلوب الإرادة مستعداً لتلقي أي أمر وتنفيذه بلا إرادة أو وعي ..!
"الديسكو" يشبه "التفقير"، فلماذا لا يعتز المصريون بـ "التفقير" أو "التطوّح" – كعادة شعبية أصلية – ويصّدرونه للغرب كما نجح الغرب في تصدير "الجاز" إلينا .. سؤال مهم .. أليس كذلك ..؟!