رنين الهاتف يعلو .. رناته القصيرة المتوالية تملأ الحجرة .. أمد يدي وأرفع السماعة وأقول : آلو.. فلا مجيب ..، أغلق السماعة، فيرن الهاتف من جديد، أعاود رفع السماعة فتصل أسماعي أغنية تقول : (بعد الرحيل.. يفضللي إيه بعدك .. يا غربتي في بعدك.. أميل على ضلِّي .. ضلِّي عليَّ يميل..).
أغلق السماعة.. يرن الهاتف من جديد .. ، أمتنع عن الرد فيعاود الرنين بعناد، وبعد رنات عديدة أرفع السماعة: فتصل إلى أسماعي أغنية أخرى تقول: لما يجيبوا سيرتك .. يحلو الكلام .. أتنهد في سرِّي .. وأهديك السلام..).
.. أغلق السماعة فيعاود الرنين ، وهكذا ..، أيام متولية لا ينقطع فيها هذا الرنين ولا تتوقف هذه الأغنيات..!!
تكرر الرنين وفي كل مرة أغلق السماعة بلطف، ولكني هذه المرة قررت أن أحسم الموقف، وعندما انتهيت الأغنية تحدثت قائلاً – وما أصعب أن تحدث المجهول- (أيتها المتصلة .. رغم أنني لا أعرفك حتى الآن ومع استغرابي لهذا الأسلوب إلا أنني أشكرك على هذا الاهتمام.. فمجرد حرصك على الاتصال وقضائك كل هذا الوقت في إذاعة هذه الأغاني لي شعور جميل أشكرك عليه .. ولكن لماذا لا تتحدثين وتكشفين عن شخصيتك.. نحن على أبواب القرن الحادي والعشرين والمفروض – في رأيي- إذا رغبت فتاة في التعرف على شخص أن تحدثه مباشرةً .. فهلاَّ تفضلت وعرفتني بنفسك..).
أنفاسها الحَرَّى ترد وهذا الإحساس يملؤني بالحيرة ، وهذه التنهيدة الصافية ليست غريبة عليّ، فمن يا ربي تكون هذه المجهولة ..؟
وأتساءل في نفسي : لماذا تلجأ الفتاة إلى هذا الأسلوب غير المجدي والمرهق للأعصاب، إن هذه الفتاة لو بادرت بمحادثتي مباشرة لوفرت على نفسها كل هذا الوقت وكل هذا التفكير، وكم من قصص حب جميلة انتهت قبل أن تولد نتيجة لخجل أحد الطرفين وصمته وتردده في مصارحة الآخر .
ومادام الحديث في طور الاحترام والالتزام والهدف النبيل فإن ذلك لا ينتقص منها شيئاً ولو كان الحب هو دافعها في كل ذلك فإنها لو تكلمت وصرحت بمشاعرها لوفرت كل هذا العناء ولعلمت أيضاً وبكل احترام موقفي .. هل قلبي مغلق بالضبة والمفتاح أم قلب موارب يمكن لأي حبيبة خلسة التسلل إليه ؟!
ذكرني ذلك بهذه التجربة التي مر بها أحد الزملاء عندما قادته الصدفة إلى زيارة صديق قديم ، ولكن المصادفة السيئة جعلت زوجته تموت فهبَّ للوقوف مع صديقه في هذا الموقف العصيب، ولم يتركه إلا بعد أن وارياها التراب في مقابر الأسرة ، وبعد انتهاء مراسم الدفن..، كانت هناك عين تنظر له من بعيد وتبكي بحزن مضاعف ، وبعد ذلك يفاجئ بهذه الباكية وهي صديقة الراحلة تأتي إليه في عمله لتروي له القصة الكامل التي كان هو بطلاً لها دون أن يدري ..! فقد كانت هذه الصديقة زميلة السيدة الراحلة في الجامعة، وهي نفس الجامعة التي كان هو طالباً بها، وكانت الزوجة الراحلة تحبه في صمت نبيل ، وآثرت أن تحتفظ بهذا الحب دون البوح به ، وعندما كانت صديقتها تلح عليها لإشعاره بذلك أو التصريح به ، كانت ترفض وفضلت أن تحتفظ بهذا الحب على أن تبوح به وتخدش كرامتها، وتمر السنوات الطويلة ليرتب القدر هذا اللقاء الدرامي المؤثر للحبيبين – في المقبرة – ولكن بعد فوات الأوان ..!! ، وبعد أن غادرت الحبيبة إلى العالم الآخر .
ألم أقل لكم .. كم من قصص الحب الوليدة أجهضها – وياللأسف – خوف المحبوبة وتردها والكبرياء الكاذب ، ميراث القبيلة ..!!
نحن على أبواب قرنُ جديد، وهذا العصر المتسارع يحتم علينا السرعة في كل شيء حتى الحب ، وإذا كان أحمد شوقي يعدد مراحل الحب فيقول : (نظرة فابتسامة فسلام/ فكلامٌ فموعد فلقاء)، فأنا أرى اختصار كل هذه المراحل لتكون (نظرةٌ فلقاء) حتى تناسب إيقاع العصر .. عصر الهامبورجر والزحام والحر والركض من أجل لقمة العيش..!!