(الأقارب عقارب) مثل سائر يتردد على الألسنة كثيراً.. وهو شأنه شأن كل الأمثال لا نعرف من قائلها تحديداً، ولكنه موروث اجتماعي تتداوله الأجيال، والمثل ليس جملة اعتباطية قالها شخص يهوى السجع، ولكنه نتاج تجارب وخبرات أجيال وأجيال أثرت أن تفيد الأجيار التي تليها فتركت حصاد تجاربها في أمثلة بسيطة شديدة الدلالة والتكثيف، والويل.. كل الويل لمن يستهزئ بهذه الأمثال، فالأيام سوف تمر وتؤكد صدق المثل الذي تركه الأجداد، عندها سيضع المستهزئ يده على رأسه ويقول (أنا اللي جبت دا كله لنفسي).
وهذا المثل السابق عن الأقارب مثل جرئ قد يصدم البعض وقد يرميه البعض الآخر بالتجني، فالكثيرون يعترفون به ، ولكنهم يخجلون من طرحه لاعتبارات عديدة، وبغض النظر عن ذلك فإن الواقع الإنساني يثبت في كثير من الأحيان صدق هذه المقولة .
وفي هذا المثل تشبيه بليغ فقد شبه القريب في غدره بالعقرب الذي لا ينجو أحد من لدغته ، والمعروف أن لدغة العقرب مميتة ، كما أن اختيار العقرب نفسه وما يتسم به من تلون وتشكل يضفي بلاغة على التشبيه ، وقد حذف القائل أداة التشبيه ليعطي دلالة أكبر فلم يقل (كالعقارب) ولكنه قال (عقارب) ، وكن الأقارب عقارب فعلاً وليس تشبيهاً.
وفي تاريخنا القديم والحديث العديد من الأحداث التي تؤكد ذلك، ولعل أو حالة بشرية عرفها الكون في هذا الصدد حدثت عدما قتل قابيل أخاه هابيل بعد أن اعترض على قسمة الزوجتين الأختين، وفي قصة يوسف عليه السلام عبرة وموعظة عندما تمكن الحقد من أخوة يوسف نظراً لشدة حب أبيه له فتآمروا لقتله وألقوه في البئر وجاءوا لأبيه بدم كذب.. أو كما جاء في القصة القرآنية الكريمة ، وعلى صعيد آخر كانت الطعنة الأولى التي اخترقت قلب يوليوس قيصر من خنجر صديقه الأقرب بروتس عندها صاح القيصر صيحته الشهيرة الدامية التي مازال صداها يتردد حتى الآن (حتى أنت يا بروتس)، وقديماً سئل جحا: هل لك أعداء ..؟ فأجاب : ليس لي أقارب، وفي حياتنا المعاصرة العديد من الأمثلة ، ويكفي أن الجرائم البشرية في الصحافة العربية لنرى دور القريب الواضح والرئيسي في الكثير منها، وفي حياتنا اليومية يمكن القول أنه ما من أحد إلا ونابته من قريب أو صديق طعنة أو غدرة أو حتى (زنبة) كما يقول العامة.
وفي تراثنا الأدبي العديد من الأشعار التي تحذر من القريب وغدره ، يقول الشعار :
احذر عدوكَ مرةً
واحذر صديقك ألف مرَّهْ
فلربما انقلب الصديقُ
فكان أعلمُ بالمضَّرهْ
فطعنة الصديق أشد من طعنة العدو، فبالإضافة إلى ما تمثله من ألم خاص لا يعادله أي ألم لأن الغدر جاء ممن تتوقع منه الوفاء والإخلاص، فإن المصيبة تكون أعظم ، لأن العد أمره محسوم فهو عدو تقليدي تستعد له دائماً وتتوقع سهامه، أما الصديق فهو قريب منك مطَّلع على أسرارك ويعرف جيداً نقاط ضعفك وهزيمتك فإذا ما أراد الغدر بك ستكون طعنته مميتة.
والقريب دائماً هو المرشح الأول للحقد عليك لأن المقارنة بينك وبينه دائمة ويا ويلك لو كنت مميزاً عنه، ويا مصيبتك لو قمت أنت بالإحسان إليه فإن لك أدى إلى أن يحقد عليك ، أكثر، والدعاء السائر يقول (اللهم اكفني شر أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم)، يقول طرفة بن العبد:
وظلمُ ذوي القربى أشد مضاضةً
على المرء من وقعِ الحسامِ المهنّدِ
وصدق الحكيم الذي قال (اتق شر من أحسنت إليه)، وصدق أيضاً بيت الشاعر :
أعلمهُ الرمايةَ كل يومٍ
فلما اشتدَّ ساعدهُ رماني
ولا يعني ذلك أن جميع الأقارب والأصدقاء تنطبق عليهم هذه المقولة ، ولكنه الاستثناء الشاذ الذي تفرزه النفس الأمَّارة بالسوء، هذا الاستثناء الذي يجب أن نعمل على تقليصه وتقويضه.
هامش: الأقارب عقارب..، وآمل أن لا أكون قد ظلمت العقرب ففيه صفة خطيرة أحترمها وهي أنه لا يقبل الهزيمة وإذا هزم في صراع يفرز جسدة مادة سامة تقضي عليه فيموت بشرف وكبرياء ..!!