ماذا يحدث إذا هرب نمر من حديقة الحيوان، وانطلق في شوارع المدينة، يركض في شارع ثم يدلف إلى آخر، وهو لا يعرف طريقه، بالتأكيد سيتسبب ذلك في حالة من الذعر والهلع عند السكان، سيركض الناس في الشوارع، وتتعالى صرخات النساء والأطفال، أما الرجال فسيتنازلون هذه المرة عن الشجاعة، ويركضون، ويغلقون على أنفسهم البيوت.
في شوارعنا العربية العديد من النمور الطليقة التي تفترس المواطنين، وتحول أجسادهم في لحظات إلى أشلاء، نمور الفساد هربت من معاقلها، وانطلقت في الشوارع والميادين والقرى، تفترس البشر، تتربص للمواطن في المدارس والجامعات والشركات والمرور والبقالات والمصالح الحكومية.
ولكن الفرق بين النمر الهارب من حديقة الحيوانات، ونمر الفساد هو أن الأول منظور ومعروف يمكن الهرب منه، ويمكن بعد قليل أن ترسل الجهات المسؤولة فرقة من البلدية للقبض عليه، وإعادته إلى مكانه بين الحيوانات، ولكن نمر الفساد غير منظور لا تراه لتهرب منه، ولكنه يباغتك فجأة، ويغرس أنيابه في لحمك وعظامك.
نمر الفساد لا يهاجمك، ولا يلتهمك مرة واحدة، ولكن يلتهمك ببطء، وله وجوه كثيرة، فهو يتمثل في التاجر الجشع الذي يزيد ثمن السلعة لكي يحقق الربح السريع، وأيضا في شركات المقاولات الكبرى التي تبني شققا كرتونية تسقط قبل السكن بها، ويتراءى في المسؤول الكبير الذي يسهل لرجال الأعمال اللصوص للاستيلاء على أراضي الدولة بـ "رخص التراب"، ويسهل الاستيلاء على القروض التي لا تجيء، .. ويضارب في أسعار الأراضي حتى يتحول سعر المتر من 500 جنيه في شهور إلى 4000 جنيه، يتجسد الفساد في الرجل الذي ينتحل إرادتك ويزور الانتخابات، ليجلس في الكرسي طوال العمر، ..في المسؤولين سيئي السمعة الذين يتآمرون على الوطن ويبددون مقدراته بالصفقات الفاسدة.
الفساد آفة تأكل من أوراق الوطن الخضراء، وتقتات على دماء الشعوب، وإذا تركت دون مقاومة، لن تترك في الوطن إلا الخراب، كالشجرة المورقة التي هاجمها الجراد، فتركها جرداء مقفرة.
تعلن المؤسسات الدولية أرقاما للخسائر التي تتكبدها الدول سنويا من جراء الفساد، وهي جميعها تقدر بالمليارات والترليونات، ومع كثرة الإحصائيات حول الفساد إلا أن الرقم الحقيقي لخسائر العالم بسبب الفساد لم تعلن بعد، وهي تحتاج على جهد كبير لرصدها، ومؤسسات بحثية دولية تملك السلطة والإمكانيات.
والسبب أن للفساد أنواع كثيرة، كالفساد الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي والفني والتجاري والإداري، وكل منها قطاع كبير تسبب في خسائر جمة. الفساد الاقتصادي تسبب في تعميق الفقر وزيادة أعداد الجوعى في العالم، والمرضى والوفيات، ويضاعف من ضحايا عدم توفر ماء الشرب والمأوى والطعام. وتسبب في إزدياد معدلات البطالة.
أما الفساد السياسي فسهل الاستيلاء على فلسطين، وأضاع الحقوق العربية، وأشعل الفتن الطائفية والمذهبية، وتسبب في ازدياد النزاعات والحروب، واحتلال الشعوب، وتدمير المدن والقرى، وتهجير السكان، ونشر الرعب والتدمير في أرجاء المعمرة. وحول الفساد الفني أنكر الأصوات والمومسات والفاشلين وأصحاب قضايا الآداب إلى نجوم في سوق الغناء، وطرد الفن الأصيل، بينما تسبب الفساد الاجتماعي في ازدياد العنف الأسري، وضعف العلاقات الاجتماعية، ونشر الجريمة.
لم يعد الفساد يتمثل في الاستيلاء على الحقوق المواطن العادية، ولكنه تزايد وكبر وتكاثر حتى وصل إلى مستويات كبيرة جدا، وصلت على الاستيلاء على الشعوب والأمم. وصفقات السلاح الكبرى التي تعقد على جراح الشعوب، وأجهزة الاستخبارات الكبرى التي تنشر الموت في كل مكان، وغسيل الأموال التجارة رقم 1 في العالم، والتجارة بالبشر، لم يعد الفساد محصورا في فرد أو مجموعة أفراد فاسدين، فهناك دول استوطن بها الفساد، وترعرع، حتى أصبحت مصدرة له، تقدم الاستشارات للدول الصغيرة الحالمة في دخول نادي الفساد العالمي. هناك دول تعتمد اقتصاداتها على زراعة المخدرات وغسيل الأموال والجريمة المنظمة، دول تشبه المافيا، تعتمد اقتصادا بشكل رئيسي على الفساد.
والمؤسف أن الفساد وصل إلى مستويات غير مسبوقة، ووصل أيضا إلى مجتمعات محافظة متدينة كان من غير المتصور أن يصل إليها ، لقد أصبح الفساد في كثير من الدول ثقافة عامة، وحصل على المشروعية من خلال قنوات عدة،. وهنا مكمن الخطر.
الكثير من الفساد يمارس في الحياة اليومية على أنه عادة اجتماعية أو ثقافية، حتى أن الرشاوي في كثير من المجتمعات أصبحت أشبه بقانون اجتماعي غير مكتوب يتم من خلاله تشريع الحصول على الرشوة تحت مسميات عدة كالبقشيش والعمولة والإكرامية. وتمنح هذه العمولة على كل المستويات بدءا من العقود الإعلانية الصغيرة، وحتى صفقات بيع السلاح.
وعندما أتحدث عن الفساد فأنا لا أهوى الحديث عن الفساد بمفهومه العام الذي يتم على مستويات عالية ، تصل إلى قيادات الدول، ورغم خطورة ذلك إلا أنني أود أن أركز على الفساد الصغير الذي يمس الإنسان البسيط العادي. وإن كان الفساد في الحقيقة شبكة مترامية الأطراف يرتبط فيها الصغير بالكبير. ويغذي المركز الأطراف، ويتغذي الأطراف المركز.
ماجدوى أن تزرع في وجود حشرة خبيثة تهدد ما تزرعه، ماجدوى المؤتمرات الدولية التي تتحدث وتنظر حول الفساد، بينما الراعي نفسه أخطبوط من الفساد يرسل أذرعته في كل جانب، وما فائدة أن تطارد اللصوص الصغار، بينما الكبار يسرقون بشياكة ويختفون وراء المناصب والأقنعة.
مواجهة الفساد يجب أن تبدأ بالفكر، وتمر بالشفافية، وتنتهي بالردع الشرطي والقانوني. ولكن مع وجود المناخ المناسب وهو العدل، فالمناخ العادل مناخ طارد للفساد، وعندما يتم توفيره ستتراجع فئران الفساد لتختفي في الجحور.