إعلان تلفزيوني يقول "الفول السوداني مش هيتبهدل تاني"، توقفت عند الإعلان الطريف وابتسمت، .. تجهمت عندما تذكرت المرحلة العصيبة التي يمر بها الشعب السوداني، والمؤامرة التي تحاك ضده، والتي تهدف إلى انفصال جنوبه عن شماله، وتمزيق أواصر شعب ووطن ظل موحدا خمسة آلاف سنة.
سؤال مر: ماذا سيكون مصير الفول السوداني الذي بلغت شهرته الآفاق، هل سيكون هناك فول سوداني شمالي، وآخر جنوبي، كيف نتقاسم النفط والديون والوجع والفقر والتاريخ والجغرافية، والأهم كيف نحدد مرجعية الفول السوداني؟.
أتصور لو جلس الشماليون والجنوبيون، واتفقوا على كل شيء، وضع مدينة أبيي النفطية، وتقاسم النفط والديون والحدود والجنسية والممتلكات، ماذا لو تمسك كل منهم بمرجعية الفول السوداني؟، ماذا لو فشلت المفاوضات في اللحظة الأخيرة لأن كل طرف راكب دماغه، ويصر على أن الفول السوداني له، وأنه الأولى بالحقوق الحصرية لهذا المنتج الشهير.
يقف السودان الآن على مرحلة تاريخية صعبة، حيث يضغط الجنوبيون مسلحين بالقوى الغربية لتنظيم الاستفتاء على الوحدة أو الانفصال، بعد شهور، وذلك في ظل ظروف إقليمية وسياسية صعبة، وشبح الحرب الذي يخيم على الجميع، وفي المقابل يقف الشمال السوداني وحيدا في لعبة شد الحبل غير المتكافئة، وسط توقعات مريرة، حيث توقع البعض ومنهم رئيس الحكومة السودانية الأسبق ورئيس حزب الأمة الصادق المهدي أن تندلع في هذه المنطقة حروب، وليست حرب واحدة.
وتتكالب هذه الضغوط على السودان من القريب والبعيد لتنظيم الاستفتاء، كالشخص الذي يجبر على الانتحار بإطلاق النار على رأسه بيده، رغم أن كل المؤشرات تؤكد استحالة تنظيم استفتاء ديمقراطي نزيه في هذه الفترة القصيرة، خاصة وأنه لم يتم بحث الملفات الجوهرية الملغمة بين الطرفين، والتي تثير العديد من الأسئلة التي لا إجابة لها.
ولا أدري كيف تركنا كعرب المرض ليتفاقم حتى استفحل، ووصل إلى هذه الدرجة من الخطر، كيف وافقنا أصلا على فكرة الاستفتاء البائسة، التي دبرت بليل على موائد أجهزة الاستخبارات العالمية، كيف تركنا الذئب يرعى بين الغنم، وعندما لم نجد الغنم جئنا نسأل ونتباكي على الخسارة الفادحة؟.
والأهم وضع الشعب السوداني مصيره بيد الغرباء، وكيف ترك العرب دولة عربية تتعثر في الطريق لتأكلها الذئاب الجائعة، كيف تركت مصر أم العرب نصفها الآخر ـ الذي كان يوما ما جزءا من لحمها ودمها، وكان الملك فارق ملك مصر والسودان ـ يتمزق إلى شعبين ودولتين؟، وكيف لم نعي جميعا الدرس؟، بعد أن سقطت فلسطين والعراق ولبنان؟، وكيف نقبل أن نذبح ألف مرة؟.
انفصال السودان هزيمة مصرية، وهزيمة إفريقية، وهزيمة عربية تنضاف لسجل الهزائم الذي يملأ الأرفف المثقلة، بالوجع والدموع. الآن فقط بعد أن سبق السيف العزل، وبعد أن خربت مالطة بدأنا نسمع بتصريحات هزيلة تطالب بالوحدة، حتى الرئيس السوداني عمر البشير بدأت تصريحاته تنادي للوحدة، الآن فقط والروح في الرمق الأخير قدم وزير الخارجية المصري اقتراحا بكنفدرالية بين الشمال والجنوب.
منذ 7 سنوات كنت في رحلة صحفية إلى العاصمة النمساوية فيينا، وركبت سيارة أجرة، وكان السائق سودانيا من الجنوب، ودار بيننا حوار شعرت فيه بمرارة كبيرة، وشعرت بعتب الجنوبيين تجاه العرب وتجاه مصر، ورغم أنني حاولت أن أكون متفائلا، مؤكدا على العلاقة المصيرية التي تربط أبناء النيل، إلا أن المرارة فرضت نفسها طوال المسافة الطويلة التي قطعتها السيارة، فشعرت بها في حلقي، تذكرت هذا الحوار اليوم، .. كان يجب أن ننتبه إلى أخدود الجرح الممتد بين الشمال والجنوب، كان يجب أن ننتبه من 7 سنوات، ولكننا دائما لا ننتبه إلا في اللحظة الأخيرة.
كلنا يعلم أن إسرائيل تعمل في جنوب السودان والعمق الإفريقي منذ سنوات بعيدة، وبالطبع إسرائيل عندما توجد في الجنوب لن توزع المساعدات الخيرية، ولكنها عملت على تسليح الجنوب، وتزويده بجهاز استخبارات قوي كما صرح أحد قادة الموساد مؤخرا، ولكننا كما قلت نحن لا ننتبه إلى عندما يتمكن المرض، فنجري بسرعة إلى الطبيب.
رغم المكابرة التي تتملك بعض الشماليين وحديثهم عن "الاستفتاء" والذي يكون أحيانا ترجمة لـ "مايهمناش حاجة"، ومنهم الرئيس السوداني نفسه الذي يضطر أحيانا ـ نتيجة الاعتزاز بالنفس ـ إلى ادعاء الحياد والترحيب بالإستفتاء، ورغم تمسك بعض الجنوبيين بالانفصال كما يتمسك الجائع بقطعة خبز، مازلنا نعقد الأمل على أن يحكّم السودانيين أنفسهم، ويبطلوا المؤامرة الكبرى التي تحاك ضدهم.
ورغم الأمل الموضوع على أجهزة التنفس الصناعي ، والإرادة الضعيفة المتهالكة، والعجز الذي يسكن الوجوه السمراء الطيبة المتعبة، يشير الواقع إلى أن الفول السوداني ـ ومعه بالطبع العرب ـ "هيتبهدل تاني"، فالسكين تجاوزت الخاصرة، وامتدت الأيدي بالأطباق نحو الكعكة، وبدأ اللئام يستعدون للوليمة.
ولكن حتى لو انفصل السودان، وتمزق إلى قطعتين مدممتين، سنظل نتمسك جميعا بالأمل الضعيف، وننتظر 100 عاما أخرى ليتنبه السودان بشماله وجنوبه إلى الخطأ التاريخي الذي حدث، ليعود خيار الوحدة من جديد، "ودنك منين ياجحا"، كما عاد في ألمانيا واليمن بعد سنوات من الحروب والنزاعات، وحتى ذلك الحين سيظل السودان دائما في ذاكرتنا ووجداننا ذلك السودان الأفريقي العربي الموحد الجميل، وسيظل الفول السوداني موحدا رغم أنف الجميع.