لا أعترض أن يكون لكل إنسان خصوصيته، ولكن ما أريد أن أناقشه مساحة الخصوصية نفسها، ففي هذا العصر أصبحت مساحة الخصوصية قليلة جدا، ففي عصر التقنية أصبح الإنسان جزءا من كل ، لم يعد الإنسان بوسعه العزلة التي كانت قديما، فمهما حاولت أن تكون وحيدا، ستخترقك رغما عنك مكالمات الجوال والإنترنت وأشعة الأقمار الاصطناعية، اركض، إهرب، اختبيء عن الناس، مهما فعلت سترصدك العيون في الشارع والعمل، حتى في منزلك، ستعد قرون الاستشعار أنفاسك، وستتحول ـ رغما عنك ـ إلى فأر تجارب يتحرك وتراقبه العيون ، وتسجل حركاته وسكناته في المختبر.
جوجل إيرث أصبح بإمكانه تصوير الشوارع والشرفات والحدائق والبيوت وداخل البيوت، الأقمار الصناعية بوسعها أن تلتقط صورا على بعد مترين فقط من الأرض، هذا يعني أنك أصبحت مكشوفا تماما ، كل تحركاتك معروفة ومحسوبة، بدءا من خروجك من المنزل وحتى عودتك إليه ، كل المعلومات عنك مرصودة ، إذا ابتسمت، إذا غضبت، إذا زرت صديقا في مستشفى، إذا واعدت حبيبة، إذا تزوجت على زوجتك، كل التفاصيل يمكن أن يلتقطها القمر الصناعي، لتتحول إلى ملف ألكتروني في أرشيف كبير جدا يضم ملايين المعلومات.
بطاقات الائتمان يمكن أن تنقل لجهات معينة تقارير دورية عن حجم انفاقك، وديونك، ونوعية الأشياء التي تشتريها، متى وأين سحبت مبلغا من ماكينة الصرف الآلي، ومتى وأين دفعت بالبطاقة مبلغا لشراء سلعة، أيضا نوعية المواد المشتراه .. هدية أو مواد غذائية، أو سكينا أو قنبلة.
الأجهزة الحديثة التي بدأت عملها في المطارات البريطانية أصبح بوسعها تصوير المسافرين وإظهارهم كما ولدتهم أمهاتهم، ورغم تأكيدات المسؤولين أن الصور الملتقطة للمسافرين سرية، ولا يتم الاحتفاظ بها، فقد شهد اليوم التالي لتشغيل الجهاز واقعة مؤسفة، عندما شاهد أحد الأفراد العاملين على الجهاز جسد زميلته، فأطلق تعليقا خارجا، وأثار مشكلة.
شركات الاتصالات بدأت في تقديم خدمة خطيرة، وهي خدمة تحديد موقع مستخدم الجهاز، ويتم عن طريقها معرفة مكان صاحب الاتصال، بمجرد ضغطة زر، معرفة البلد والمدينة والحي والشارع، وقد بدأ الأمر بتقديم الخدمة للآباء الذين يريدون أن يعرفوا مكان أبنائهم، والله أعلم متى تعمم الخدمة ليكون بوسع أي شخص معرفة مكان المتصل به والعكس صحيح. التقنية البوليسيىة التي كنا نراهل في المسلسلات والتي تمكن الشرطة من معرفة مكان المتصل بعد عدة ثوان ، سيأتي يوم قريب جدا ونراها معممة في جميع الجوالات، ولا ندري .. من الممكن جدا أن تكون هذه الخدمة مطبقة، ولكن بطريقة سرية، وأن تكون هناك جهت ترصد تحركاتك عن طريق اتصالاتك الهاتفية.
أجهزة الكمبيوتر الشخصية والمحمولة " اللاب توب" حذر الخبراء مستخدميها من إمكانية اختراق الجهاز عن طريق برنامج معين عن طريق الهاكرز، وإمكانية أن يقوم هذا الهاكرز بتشغيل كاميرا الجهاز خاصتك ، وتصويرك وأنت في منزلك في أي وضع، بملابس أو دون ملابس دون أن تدري.
أضف إلى ذلك وسائل المراقبة الكثيرة التي تتبعها الدول، من خلال الكاميرات التي تعلق في الشوارع والميادين، وكاميرات التي ترصد المخالفات المرورية وغيرها من الكاميرات ووسائل الرصد المنظورة وغير المنظورة، المعروفة وغير المعرفة.. يمكننا القول أن الخصوصية انتهت، باختصار كلمة الخصوصية اختفت من حياتنا، وأصبح الإنسان مثل كتاب مفتوح يسهل للجميع قراءته. وبالنظر إلى ما توصل إليه.
حتى الكاميرات الفوتوغرافية أصبحت إحدى وسائل اختراق الخصوصية، حيث أمكن للكاميرات ذات البكسل العالي من التقاط صور تكشف الشعرة بجسم الإنسان، وفي الغرب يوجد نوع من الصحافة يعتمد على التلصص على المشاهير ورصد زلاتهم وحركاتهم وأخطائهم وعلاقاتهم، وتحليل الصور الخاصة بهم، بعض الصور التقطت في يد نجمة خاتم زواج، وصورة أخرى أظهرت كدمة على فخذ نجمة أخرى، وصورة ثالثة كشفت نجما يتسلل من الباب الخلفي لإحدى النجمات، ولعل الفضيحة الأكبر التي كشفتها الكاميرات الفوتوغرافية صور لنجمة بوب عالمية بدون ملابس تحتية.
وأمام هذا الاختراق السافر لخصوصيات الإنسان، من الممكن أن تنمو تجارة مربحة، يحقق أصحابها المليارات، وهي إنتاج وسائل لحماية الخصوصية، ولنتخيل كيف ستكون هذه الوسائل ، ربما من بينها بدلة تشبه بدلات رواد الفضاء مطلية بمادة عاكسة كالقصدير تشوش على أجهزة الرصد ، وتجعل الإنسان مخفيا، وهي تقنية متبعة في طائرات الشبح، وتجعل من المستحيل على أجهزة الرادار رصدها.
ورغم السلبيات الظاهرة والمؤكدة لهذا الاختراق التقني، إلا أن لذلك برأيي فوائد، سيقضي هذا الاختراق على الكذب والجريمة والاستتار والاختفاء والخداع والمراوغة والكذب، فعندما يعلم الجميع أنهم مراقبون سيتجنبون الخطأ، وكما يقول المثل الشعبي "امشي عدل يحتار عدوك فيك". سيخشى الإنسان من الخطأ، وسيفكر ألف مرة قبل أن يرتكبه.
وجريا على ذلك بوسعنا توظيف هذه التقنية في أمور كثيرة إيجابية، من بينها مكافحة الجريمة، لأن الرصد الرقابي الذي يتم على مدار الساعة يمكن عن طريقة حماية البنوك والهيئات والمنازل من السرقة، وعن طريق رصد حركة الأفراد يمكن أن نحدد المشتبه بهم في الجرائم المختلفة، بل يمكن ـ في مرحلة متقدمة تحديد المجرم الذي ستظهر صورته وهو ممسك بالسكين على شاشات الرادار.
وفي العالم العربي يختفي الكثيرون وراء الخصوصية، الساسة يتعللون بها أمام المطالب الدولية بفرض الديمقراطية، الآباء يتعللون بالخصوصية لممارسة المزيد من الضرب والقمع على المرأة باحتجازها وحجبها ومنعها من الزواج والاستيلاء على راتبها، وحرمانها من ميراثها، وممارسة العنف الأسري الجسدي والنفسي عليها، ويتم عن طريقها حماية سلطة الذكر كإله صغير يبطش ويدمر ويظلم ويتجبر في الأسرة والمجتمع.
وقد أفرز الولع بالخصوصية في العالم العربي عن ما يمكن أن نسميه تجارة الخصوصية، وتتعدد منتجات هذه التجارة لتشمل الملابس والسواتر الحاجبة بين المنازل، ومشاريع وفروع نسائية لمنع الاختلاط ، وتوفير "الخصوصية" للمرأة، فوجدنا في بعض الدول والمجتمعات أسواق خاصة بالنساء، وأخرى للرجال، وفروع بنكية خاصة بالسيدات، وأخرى للرجال، متنزهات خاصة بالعزاب، وأخرى مخصصة للعوائل، ورغم حسن النية لدى البعض فإن الخصوصية تحول في بعض الأحيان إلى تجارة تقدر ميزانيتها بمئات المليارات.
في بلادنا العربية اقمع الأطفال والنساء، واحرمهم من حقوقهم في الدراسة والعمل والميراث والزواج والحياة الطبيعية الكريمة، وإذا اعترض أحدهم وقال : اتق الله، تعلل بالخصوصية، في بلادنا العربية اقمع المعارضين، وصادر حقوق الإنسان، وكمم الأفواه، وإذا جاءك أحد ليدس أنفه ويقول "الديمقراطية" ، ارفض التدخل في شؤونك الداخلية، وتعلل بأن لكل شعب خصوصيته، في بلادنا العربية القمع يبرر باسم الخصوصية، الجرائم ترتكب باسم الخصوصية، العفن ينمو ويتكاثر تحت غطاء الخصوصية.
ولكن الواقع يؤكد أن " الخصوصية" بدأت في التآكل، حطمتها التقنية، وحولتها إلى قطع من الأحجار الصغيرة، وأصبحت مساحة الخصوصية الجديدة لا تتجاوز مساحة الجسد .
رغم مساويء التقنية ، إلا أنها ستعيد لنا الصدق المفقود، ليتطابق ما نقوله ـ لأول مرة ـ مع ما نفعله، إذا حاول أحدهم أن يسرق ، نهره زميله وأشار إلى السماء، فهناك حتما من يصوره. التقنية ستجعلنا نمشى كحرف الألف مستقيمين، وشعارنا جميعا "امشي عدل يحتار عدوك فيك".