أريد أن أخترع طائرة، لا تهبط أبدا، تظل هكذا في الجو أطول فترة ممكنة، مثل طائرة الرئاسة الأمريكية التي تتزود بالوقود في الجو، ويمكنها البقاء محلقة عدة أيام، أريد أن أخترع محطة فضاء مثل محظة الفضاء الدولية التي مازالت سابحة في الفضاء منذ عشر سنوات، أخترع عالما من الماء كالذي جسده فيلم أمريكي تخيل عالما من البشر يعيشون فوق الماء، ولا يعرفون اليابسة.
أريد عالما جديدا من اختراعي، من بنات أفكاري، كرة فضائية جديدة أصنعها على مزاجي، لا مكان فيها للكره والحروب والنزاعات، لقد أفسد الإنسان الأرض، وحولها إلى ساحة حرب بدلا من أن تكون ساحة سلام. دمرها بالتلوث والاحتباس الحراري والحروب والمعارك، .. نريد واقعا جديدا مختلفا عن هذا الواقع الذي نعيشه.
من هذا الجاهل الذي انتقد أحلام اليقظة، واعتبرها علامة على خلل نفسي، يجب أن نحلم ونظل نحلم في المنام وفي الصحو، فالحلم أول خطوة نحو الحقيقة، والحلم نشوة روحية لا يعرفها إلا الطموحين المثابرين، كثيرون لا يعرفون كيف يحلمون، لذلك يظلون دائما في قاع البئر، الحالمون فقط من ينجحون ويصعدون ويعلقون راية النصر على أفريست الحلم.
الحلم هو الفرق بين الناجح والفاشل، الضوء والظلام، الحياة والموت، تصوروا لو لم نحلم، لأصبحنا مجموعة من النمل تخرج كل يوم من الجحر لتبحث عن قوت يومها، ولبقينا نعيش في الغابات ، نركض خلف الحيوانات الهاربة.
ماذا سيحدث لو قررت أمريكا توسيع محطة الفضاء الدولية الرابضة هناك في الفضاء الخارجي، والتي يبلغ طولها ملعب كرة قدم وأقام بها 200 شخصا منذ إنشائها، لتصبح مدينة كبيرة تضم مدارس وجامعات وصحف ومراكز تسوق، ماذا يحدث لو منحنا هذا المجتمع الصغير الفرصة لأن يتكاثر ويتوالد ويكبر ليكون وطنا جديدا كالحلم.
هل سيكون أهل الفضاء قادرين على تحقيق المعجزة، وإنشاء المدينة الفاضلة؟، هل سيكون العالم الفضائي الجديد بلا حروب أو نزاعات أو واسطات أو قضايا فساد، هل سيتمكن إنسان الفضاء من إقرار العدل الذي يفتقده الإنسان في الأرض؟، وماذا سيكون طبيعة المولود في فضاء غير ملوث ليس فيه تلوث بيئي أو قمامة شوارع أو سحابة سوداء، هل سيكون طويلا أم قصيرا، قويا أم ضعيفا، بعين أم بثلاثة أعين؟.
البعض يتفاءل ويؤكد أن مدينة أفلاطون ستتحقق، والبعض يتشاءم ويرى أن إنسان الفضاء هو نفسه إنسان الأرض، لذلك سينقل معه جرثومة المرض من الأرض إلى الفضاء، وفي سنوات قليلة ستبدأ النزاعات بين مواطني محطة الفضاء، وتتزايد جرائم السرقة والقتل والاغتصاب والرشا، سيظهر الفقر لأول مرة نتيجة جشع البعض ومحاولتهم تحقيق الثراء غير المشروع، سيظهر تجار الفضاء الذين يستولون على مساحات الفضاء عن طريق وضع اليد والمناقصات المشبوهة، ويحصلون على الفضاء برخص التراب. سيظهر العنف الأسري والاجتماعي والدروس الخصوصية والعنف في المدارس والزحام وطوابير الخبز .. كل المشاكل التي يعاني منها إنسان الأرض ستنتقل بالتدريج إلى الفضاء.
ستظهر الديكتاتورية ويتفاقم الظلم، وتخرج المظاهرات الفضائية تنادي بالديمقراطية، لتتفرج علينا الكائنات الفضائية، وتصبح فضيحة جديدة للبشر بين الكواكب والمجرات، لنكتشف بعد ذلك أن التجربة فاشلة، وأننا بدلا من أن نصنع عالما جديدا جميلا يتميز بالعدل والحرية، أضفنا إلى عالمنا المريض عالما آخرا جديدا مريضا هو الآخر، لتكون مصيبتنا مصيبتين، ولتكون "وكستنا" .. وكستين.
ماذا سنفعل إذن .. لا الحلم بنافع، ولا الواقع بمفيد، الحل إذن أن نمزج بين الخيال والواقع، نحلم ونتخيل ونطمح لعالم أفضل، ولكننا في الوقت نفسه نعمل على تغيير الواقع ، الحلم الحقيقي لا يعني رفض الواقع والهروب منه والانعزال عنه، والتأفف منه، كما يتأفف الناس من الأجرب، ولكنه يعني أن نحلم وفي الوقت نفسه نعمل على تحويل الحلم إلى حقيقة، نمزج الحلم بالعمل، والنقد بالتغيير، ونحول بالإرادة الأحلام المستحيلة إلى واقع، يجب أن نحلم ونسعى دائما للأفضل والأرقى والأحسن، ويتفق ذلك مع قوله تعالى "لا يغير الله مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
مهمة الإنسان الأساسية التي كلفه الله بها هي إصلاح الأرض وإعمارها، وليس إعمار الكواكب الأخرى، وهذا لن يتحقق بالاستسلام أو التمرد أو الهجرة للكواكب الأخرى، ولكن يتم بتغيير الإنسان من الداخل، لأنه بدون العلاج سيظل الإنسان مريضا ينقل عدواه إلى أي مكان يذهب إليه ، حتى لو ذهب للإقامة على القمر.
العاجز المستسلم لقدره ومصيره لا يصلح للحياة والبناء والنجاح والتقدم، كذلك فإن الحالم المحلق بجوانجه في عالم الرومانسية والخيال لن يصلح لتحسين الحياة، لأنه بذلك سيصبح مثل مدمن المخدرات يعيش في عالم وهمي لذيذ من اختراعه هو، لذلك علينا أن نجمع بين الواقع والحلم، والخيال والعمل لنؤسس النهضة الإنسانية الكبرى، ونحقق الأحلام على كوكب الأرض.