هل يفصل الصحفي ..؟ نعم ، هل يسجن ..؟، نعم، هل ينقل بجرة قلم من الديسك المركزي إلى الإعلانات..؟، نعم، هل يمكن محاصرته وتجويعه واغتياله ..؟، نعم، ولكن الصحفي في النهاية لا يموت، .. الصحفي أصعب خصم، وأقوى مقاتل، ليس من السهل هزيمته، لا تنفع معه الملاكمة، ولا الطعن في الظهر، ولا القنابل الانشطارية، ستنفجر القنبلة الجبانة في وجهه، ولكن بعد قليل سيتبدد الدخان، ويظهر الصحفي دون أن يصب بخدش.
القنابل التي تزرع في السيارات، والمنازل، والرصاص، والسكاكين، قد تؤذي الجسد وتقتله، ولكن أن تقتل الفكرة .. هيهات، .. ناجي العلي رسام الكاريكاتير الفلسطيني الذي استهدفته الطعنات الغادرة في لندن مات جسده، وبقى "حنظلة" يتجول بين الأوراق، ويتقافز بوجهه الطفولي البائس على المكاتب والكراسي ليتهمنا بالعجز والخيانة. المذيعة اللبنانية مي شدياق فقدت أجزاء من جسدها في محاولة اغتيال إجرامية، ولكنها لم تفقد إرادتها، وظلت فكرتها قوة تؤرق نوم القتلة.
حدث ذلك في اغتيال السادات، وفرج فودة، وهاشم الرفاعي، ومصطفى مشرفة، وسميرة موسى، وسليمان خاطر، وسليم اللوزي، وسمير قصير، وجبران تويني، وعندما فرقوا بين الدكتور نصر حامد أبوزيد وزوجته، ويحدث هذا كل عام، حيث يغتال مئات الصحفيين، والمفكرين، والعلماء، لتسقط أجسادهم لنشهد قيامة أفكارهم، لتبدأ في الانتشار والخلود.
الكلمة سلاح يفوق القنبلة النووية، والفكرة كائن هلامي لا يمكن مسكه باليد، أو القبض عليه، أو إيداعه السجن، أو قتله، الفكرة فيروس ينتقل في الهواء، ويتسلل، ويطوق عنقك، ويخنقك وأنت نائم في سريرك فتصاب بالشلل، الفكرة كالطاقة لا تفنى أو تستحدث، تولد لتعيش، يموت الناس وتتوالى الأجيال، وتبقى الفكرة مشعة متوهجة كالفسفور المشع.
والدلائل على ذلك كثيرة، الثائر الكوبي تشي جيفارا الذي اغتيل عام 1967 مازال أفكاره حية في العديد من بلدان العالم، ومازال الشباب العربي يرتدي القبعات والتي شيرتات والإكسسوارات التي تحمل صورته. الفكرة لا تموت، تظل هكذا مصدر إلهام حي للأفراد والشعوب والمجتمعات.
الفكرة لا تموت، إذا قتلت واحدة ستنقسم ـ كما يحدث في الاستنساخ ـ إلى ملايين الأفكار، إذا ألقيت بها من الباب، ستدخل لك من النافذة، وإذا أغلقت النافذة ستتسلل لك كالضوء، والحرارة، والأشعة فوق البنفسجية، وتضربك على قفاك، إذا تسلحت بقلعة حصينة محاطة بالأسوار والرماة والعتاد، ستمر عبر الأسوار ـ كالعفريت ـ وتجلس أمامك على طاولة الطعام، إذا هربت منها بالنوم، ستأتي لك في أحلامك كالكوابيس، .. الخيار الوحيد المتاح لك هو أن تحاورها، وتنتصر عليها بالحجة والمنطق.
والفكرة قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية، ومن حكمة الخالق أن الفكرتين منحتا نفس القوة، ليظلا يتصارعان في الحياة، كالبطل الخير والبطل الشرير اللذين تجسدهما الأفلام العالمية والصراع المستمر بينهما، فالفكرة لا تقتلها إلا فكرة أخرى.
هناك فكرة نبيلة تهدف إلى بناء الإنسان، وأخرى تعمل إعتام عقلك، تسوقك كما تساق البقرة إلى المذبح، هناك فكرة ترفعك وتقويك، وتبعث في قلبك المريض الحياة، وفي المقابل فكرة تنبش أظافرها في لحمك فتسيل منه الدماء.
ولكن البعض مازالوا يعتقدون بإمكانية قمع الأفكار، ويستخدمون في ذلك أساليب قديمة تثير الضحك، كالمنع والتشويش، والتشهير، والمصادرة، والفصل، والسجن والاعتقال، ولكن هؤلاء كانوا دائما مثل دون كيشوت الذي حارب طواحين الهواء بعد أن توهم أنها شياطين ذات أذرع هائلة.
الفكرة كالطفل المراهق الذي يرفض وصاية أبوية، كالطائر لا يمكن أن يعيش إلا حرا محلقا، كالخيل البرية التي ترفض أن تمتطى في مضامير السباق لكي يتراهن عليها الأغبياء. الفكرة أهم سلاح إنساني للبناء والتقدم والنصر، والعدل، والحرية، وإعمار الأرض.