كما غزا الهمبرجر الأمريكي أشد قلاع الدول المعارضة تحصينا مثل اليابان والصين وإيران، غزا الفول المصري دولا كثيرة في العالم، تقول المراجع أن أول من عرف الفول هم الفراعنة، وقد استخدموه كغذاء لهم قبل وأثناء بناء الأهرامات، وقد عرف الفول لدى المصريين في الوقت المعاصر، حيث ظل الوجبة الشعبية الأولى، حتى أن البعض اعتبره بروتين الفقراء.
قد يحدث نقص في واردات القمح، أو الأرز أو حتى اللحوم، ولكن لا يمكن أن تتصور الحكومة المصرية أن يحدث تراجعا في محصول الفول، لأن ذلك سيهدد الأمن الغذائي المصري، وإذا كان الشعب لم يثر عندما ظهرت مشكلات نقص الخبز والبوتاجاز والأرز، فإنه مستعد للخروج عن بكرة أبيه في حالة نقص إمدادات الفول، وإن كان وضع "الفول" يثير القلق، خاصة بعد تقارير تحدثت عن غلاء سعر استيراد الفول من الخارج، وظهور مايسمى بـ "أنفلونزا الفول".
وقد مثل الفول هو وزميلته الطعمية أشهر ثنائي عرفه المصريون، وفي بعض الأحيان يطلق على الطعمية اسم دلع هو "فلافل" ، لتكون التسمية الأشهر هي "فول وفلافل".
الفول الذي اتهم دائما بأنه يتسبب في الخمول والكسل، وكان وسيلة للتندر في الأعمال الفنية، ومنها مسرحية "المتزوجون" بطولة سمير غانم وشيرين. حصل أخيرا على صك البراءة، عندما توصلت إحدى الدراسات ـ خلافا للسائد ـ إلى أن تناول البقوليات في الصباح يساعد على التركيز والتعلم، بينما تناول الحليب صباحا يبطيء الاستجابة وردّة الفعل.
ولعل سبب انتشار الفول في مصر والعالم، أنه وجبة غنية بالفيتامينات والبروتينات، إضافة إلى كونها وجبة رخيصة السعر، تتناسب مع ذوى الدخول المحدودة، وفي القاهرة تنتشر عربات بيع الفول التقليدية، والتي يقصدها كل صباح الشباب والموظفون، ويستمتع كل منهم بتناول الفطور على الواقف، تماما كما يحدث في البوفيه المفتوح، ولابد من تناول كوب من الشاي بعد ذلك لزوم "الحبس" وفقا للتعبير الشعبي الطريف، ثم يتجه كل منهم إلى وجهته.
وكانت ربات البيوت يحرصن على تدميس الفول منزلية في "الدماسة" ، وبالتدريج أصبح الفول وجبة لاغنى عنها في فطور الأولاد والبنات، كما أصبح لها قيمة ووضع خاص في رمضان المبارك.
وتتبارى محلات الفول في إعداده وتجهيزه، والعمل على تميزه بإضافة خلطات خاصة من البهارات يحتكرها المحل باعتبارها "سر الصنعة"، وقد قدم الطهاة طرقا مختلفة لإعداد الفول، بإضافته إلى مواد غذائية أخرى، كالبيض أو الفلافل، وصلصة الطماطم، واشتهرت في مصر محلات معينة بأسماء غريبة مثل "الجحش"، و"البغل" ، إضافة إلى أسماء أخرى مثل "الدمياطي" و"محمد أحمد"، وأصبحت قدرة الفول ماركة مسجلة في شوارع القاهرة تثير شهية الجائع والشبعان على حد سواء..
الفول استقبلته بلهفة العديد من الشعوب، وبعضها أعاد تصديره إلى بلدان أخرى مع لمسة محلية في الإعداد والتقديم. من هؤلاء الأفغان الذين قاموا بتدوير الفول وإعادة تصديره إلى الدول الخليجية، بعد أن وضعوا لمساتهم عليه بتقديمه مرة منفردا بالزيت أو السمن، ومرة أخرى مزيجا من الفول والعدس، وهو ما يسمى "قلابة"، والاختراع الأهم الذي قدمه الأفغان، وأصبح صديقا للفول هو "التميس"، وهو نوع من الخبز الأفغاني الشعبي المعد بطريقة خاصة.
يتم طهو خبز التميس في فرن دائري الشكل يشبه القبة، ويقوم الخباز بفرد عجينته على أداة دائرية منجدة تشبه المخدة تسمى "رفيدة"، بعدها يقوم بإدخالها إلى الفرن، ثم دفع الرغيف في سقف الفرن أو جانبه ليلتصق الرغيف في السقف أو أحد الجوانب، ولا أدري حقيقة السر في التصاق الرغيف في سقف الفرن، رغم أن من الطبيعي أن تتسبب الجاذبية الأرضية في سقوط الرغيف؟، ويستمر الخباز في تكرار هذه العملية حتى يمتليء الفرن من الجوانب والسقف بالأرغفة.
بعد قليل يقوم الخباز بإخراج الأرغفة الواحد تلو الآخر عن طريق سيخين حديدين، وقبل أن يخرج الرغيف من حدود الفرن يرش عليه رشة من الماء، فيحدث ذلك صوتها مميزا، ثم يخرجه ساخنا ليتلقفه أحد الجماهير التي تنتظر "التميس" بلهفة غريبة.
ومن التميس أنواع منها "العادي"، و"البرّ"، و"البسكوت"، و"ملبلب"، و"طائفي"، و"تميس بالجبنة"، وبانضمام التميس إلى الفول تكون ثنائي جديد هو "الفول والتميس" وهو يضارع الثنائي المصري "الفول والطعمية" في شهرته.
ويقبل المواطنون والمقيمون في الخليج وفي السعودية بالذات على وجبة الفول والتميس الصباحية، لكونها وجبة عملية لا تحتاج إلى استعدادات وتجهيزات، تناسب الأسرة بكل فئاتها سواء أكانت ثرية أو متوسطة الحال، يتم تناولها قبل الخروج اليومي إلى مقار العمل والمدارس، كما تناسب العمال والموظفين، حيث يمكن تناولها بسهولة في مقار العمل بطريقة جماعية. في المكاتب أو في الهواء الطلق، أيضا ساعد رخص سعرها على زيادة الإقبال عليها.
وهكذا انتشر الفول في العواصم العربية والإسلامية، حتى وصل إلى حدود الصين، وكان ذلك بمثابة غزو غذائي ناجح يعوض ما لم نحققه من غزو عسكري وعلمي وثقافي.
رحلة الفول من الإقليمية إلى العالمية يمكن أن نستخلص منها عددا من العبر، منها أن الغذاء ثقافة لا تعرف الجنسية أو الحدود أو تأشيرات السفر، تتحرك بسهولة بين الدول، وتنتشر بين الأمم والشعوب، والغذاء يفعل ما عجزت عنه السياسة، فكم من الأطعمة قربت بين الشعوب ، وكم من الأطعمة كانت سلاحا ثقافيا غزت به دول دولا أخرى لا توجد معها علاقات دبلوماسية، كالغزو الذي قام به الهمبرجر الأمريكي لإيران والصين وكوريا الشمالية.
النقطة الأخرى هي أن العرب بجلالة قدرهم والذين لم ينجحوا في اختراع مهم يفيد البشرية، ويقومون بتصديره للغرب، هاهم يحققون أخيرا إنجازا كبيرا باختراع الفول الذي أصبح يشهد هو والشاورما إقبالا ـ كما علمت ـ في عواصم أجنبية.
أقترح أن ندرج "تاريخ الفول" ورحلته العصامية من القاع إلى القمة في الكتب المدرسية، ليفخر المصريون أولا والعرب ثانيا بهذا الإنجاز الذي قدموه للبشرية، ويتعلم منه النشء العصامية والكفاح.