اليوم ماتت جدتي "سنية"، غابت آخر سنديانة في بر مصر، فتشردت العصافير، وذبلت الإقاح، وارتفع في حي المنشية صوت غريب يشبه النشيج، .. اليوم رحلت الجدة والصديقة الأثيرة،.. غابت "نينه" الجميلة .. الحضن الدافيء الذي كنا نركض إليه صغارا، فنرجع محملين بالحلوى واللعب.
رحلت حلوة اللبن، وأخذت معها النقاء والصفاء والطيبة وحسن النية، السيدة البسيطة التي كانت توزع البشاشة، في زمن العبوس، والسماحة في زمن الغدر، وتمنح الفقراء والمحتاجين أرغفة الحب.. رحل الربيع، فلا زرع ولا حصاد.
غابت سيدة الشمس فكيف نعيش في الظلام، رحلت الأم الأمية المثقفة التي كانت تفهم في السياسة والثقافة وعلم الاجتماع، .. ربت فأحسنت التربية، وقدمت للمجتمع الصحفي، والمهندس، والمعلمة، والمخرج الفني، رحلت لتلقى أخيرا "سيدي زكي" رفيق العمر الذي سبقها إلى العالم الآخر منذ 30 عاما، أخيرا اجتمع شمل الزوجين الرفيقين في دار الحق، فمتى يجتمع شمل الغرباء؟.
آه ياجدتي الطيبة، من يجمع الجارات لينقشن كعك العيد، ويصنعن السمن في حوش الدار، ويتفنن في إعداد البسكويت والغريّبة والقرص الشعبية الشهية التي كنا نقضمها، ونقول .. الله؟، من يطعم الدجاجات، ويطلب منا إمساك إحداهن، فنركض، ونضحك، ونثير الفوضى في الشارع؟، نتسلل بشقاوة الطفولة إلى غرفة الفرن، ونجمع البيضات في السلال، من يحتوينا ويطعمنا ويسقينا، ويغسل ملابسنا، عندما تغيب الأم؟، من يدعو لنا ولأبنائنا بطول العمر، ويرفع يده بدعاء من القلب "ربنا يجعل في وشك القبول".
رحلت الأم الرؤوم، فمن يرعى اليتامى، ويسقي الزهور، ويداعب الفراشات، ويفتح الشبابيك للضوء ؟. من يفتح ذراعيه ليجمع العائلة الكبيرة ـ بعد أن فرقها الشتات ـ في بيت العائلة حول سفرة، أو "طبلية" مليئة بالأكلات الشهية.
كانت جدتي تحب أحفادها أكثر من حبها لأبنائها ، .. وكما يقول المثل "أعز الولد .. ولد الولد".. الجدة دائما تختلف عن الأم، فإذا كانت الأم تحب أولادها مرة ، فالجدة تحب أحفادها ألف مرة، الجدة مستودع الخبرات العظيمة، مركز الاستشارات الاجتماعية الذي يقدم نصائحه للأم والأحفاد .. في آن واحد، قبطان ماهر خبر البحار والعواصف. يمكن أن نتجنب الكثير من الصعاب بالاستماع إلى نصائحها الثمينة.
آه ياجدتي الحلوة، شبيهة الملكة أليزابيث الثانية، رحلت دون وداع، ودون كلام أو سلام، .. أكلت الغربة وجهي وصدري ورئتي، وحرمتنا من لحظات الوداع، حرمتنا من أن نتحلق حولك حتى في اللحظات الأخيرة، ونقرأ القرآن وأدعية الرحيل، .. تبا للغربة التي أخذت منا كل شيء، ولم تترك لنا سوى الدموع.
سنشتاق حتما إلى البيت الكبير بغرفه الواسعة، وشبابيكه العتيقة، والحوش الواسع والقلب الواسع الذي يتسع للجميع، والذي رفضتِ تطويره لأنه جزء من الذكريات .. سنشتاق حتما للجلسة الجماعية فوق السطوح، والتعريشة التي تجمع الأحبة من الأهل والأقارب والجيران. سنشتاق إلى الحضن الكبير والحب الكبير المنزه عن أي غرض.
الحزن احتل اليابسة، وأعلن سنوات الحداد، والفراق يغرس في الروح نصل الألم، وأنا هنا ـ في غربتي البعيدة ـ أحاول بكل ما في وسعي أن أحضن أطياف الأحبة، أتفرس وجوههم وملامحهم، وأشتم زهورهم قبل أن يسقطها الخريف.. دون جدوى.