الاقتصاد هو عصب الحياة في أي مجتمع. وهو المحرك الأساسي للحياة الاجتماعية، وهو أيضا مؤشر رئيسي للسعادة، وتتحدد على أساسه جميع ملامح الحياة السياسية والاقتصادية، ومن خلاله تتحدد ـ علوا أو هبوطا ـ نوعية الفن والأدب والحضارة .. وقد لاحظنا أن ازدهار الشعر العربي كان مرتبطا بعصور الرخاء الاقتصادي ، والعكس صحيح.
هو القلب الذي يضخ في شرايين المجتمع دماء الحياة، ولو توقف هذا القلب لأصيب المجتمع بالسكتة الحضارية، وخرجت المظاهرات الاحتجاجية الفئوية من كل مكان.
الاقتصاد ـ كالسياسة ـ يدخل في كافة تفاصيل الحياة .. فهو مؤثر أساسي في الفقر وغياب رغيف الخبز، وزحام المواصلات العامة، والزحام المروري، وتأخر الزواج، والبطالة، والطلاق والعنف الاجتماعي، والجريمة.
ولكن رغم أهمية الاقتصاد ظل على الدوام حكرا على البعض من المتخصصين والساسة، واستمر في الذهنية الجمعية كلمة ثقيلة الوقع تستعصي على الفهم، .. ظل الاقتصاد حكرا على أساتذة كليات الاقتصاد، والعلوم السياسية، يتميز بمصطلحات خاصة واشتقاقات غريبة، كالإفصاح والإندماج ، ويرتبط بتحليلات ومؤشرات لا يستسيغها المواطن العادي.
حتى الاقتصاد المنزلي بمفهومه البسيط، والذي كان يدرس لبناتنا في المرحلة الابتدائية والإعدادية اختفي مع "وهم" تطوير المناهج، وأصبحت الطالبة لا تستطيع حتى أن تقلي بيضة . ولا تعرف مكان المطبخ.. ، وظهر لنا جيل غريب لا يعرف إلا التقنية والجوالات وأجهزة الترفية الألكترونية، والمواقع الاجتماعية مثل تويتر والفيس بوك وماسبيس.
كان الاقتصاد كلمة سيئة السمعة في بعض الأحيان، لارتباطها المباشر بأزمات المواطن العادي الذي يعاني في سبيل الحصول على لقمة العيش. حيث كان مسؤولو الحكومة يتحججون دائما أمام احتياجات الناس بالاقتصاد وأزماته، ويذكرون في ذلك تعبيرات متخصصة مثل معدل التضخم، وتباطؤ الاقتصاد العالمي، والاقتصاد الحر .. وهي كلها مصطلحات لا يعرف معناها المواطن العادي.
لجأ المواطن البسيط إلى إدارة اقتصاده الخاص على طريقته، فكانت "الجمعية" هي الأسلوب الوحيد الذي يحقق له الأمان الاقتصادي، ويحميه ـ قدر الإمكان ـ من المواقف الصعبة، ويساعده أيضا ـ قدر الإمكان ـ على الوفاء بالتزاماته الحياتية.
من هنا افتقد المجتمع للثقافة الاقتصادية العامة، وقد أوقع الجهل الاقتصادي الكثيرين في مشكلات عدة، فظهرت لنا مشكلات مثل مشكلة شركات توظيف الأموال، ومشكلة خسائر البورصة، ومشكلة بطاقات الإئتمان ، حتى على المستوى المنزلي عانت العديد من الأسر من أزمات مالية بسبب عدم درايتها بالطرق الصحيحة لإدارة اقتصاديات المنزل الذي لا يختلف حقيقة في مفهومه العام وأهدافه عن الاقتصاد الكبير، وهو اقتصاد الدولة.
بعض القنوات الفضائية استحدثت طريقة خبيثة لترويج الاقتصاد، من خلال جلب مذيعات فائقات الجمال لتقديم النشرة الاقتصادية الموسعة، ومع "دلال" مذيعة، و"رقة" أخرى، و"تنورة" ثالثة .. أصبحت لـ "النشرة الاقتصادية" جماهيرية، فسرح المشاهدون في "مؤشر" عيون المذيعة، وتسمرت عيونهم على "تضخم" أجزاء معينة منها، وحققت هذه النشرة التسويقية المعدلة نسب متابعة عالية .. . أي نعم المتابعون للنشرة لم يتابعوها من أجل معرفة أخبار الأسهم الحمراء، والخضراء، وأخبار المليارات، ولكن نجحت القناة في تحقيق ما تريده من إقبال جماهيري وإعلاني .. والسلام.
ولكن هذه البرامج رغم جماهيريتها والإقبال عليها لم تنجح في محو أمية المشاهدين الاقتصادية، بل زادت من جهلهم، وأضافت جهلا آخرا ، وهو الجهل الأخلاقي.
من هنا تبرز أهمية ترويج الثقافة الاقتصادية .. ليس بمفهومها المتخصص الثقيل، ولكن بمفهوم بسيط ، ولا مانع من إضافة شيء من التشويق لهذا النوع من الثقافة لكي يكون مقبولا من قبل العامة.. ليس لدرجة استخدام الجميلات كما فعلت بعض الفضائيات. ولكن يمكن استحداث منهج إرشادي خاص حول اقتصاديات الحياة يقدم عناوين بسيطة مشوقة مثل "ميزانية المنزل"، "خطة حياة"، حياتك خطوة خطوة" ، كيف تستثمر أموالك؟".
تساعد هذه المناهج أو النشرات التوعوية الفرد والأسرة على إدارة اقتصاديات المنزل، والحياة، والمشاريع الصغيرة، والأسهم، والتجارة، والصناعة، وغيرها من المجالات التي يحتاجها المواطن العادي.
سوف تمحو هذه الثقافة الأمية الاقتصادية التي يعاني منها الكثيرين، وتقدم جيلا جديدا يعرف قيمة المال، والعمل، ويحسن استخدام موارده، ويجيد عمليات الاستثمار الصغيرة .. وسوف ينعكس ذلك بالدرجة الأولى على حياته الشخصية، ويتمكن من إدارة اقتصادياته الشخصية من ملبس، ومأكل، وأسرة، وتنزه، وترفيه، وسفر، وسوف يكون ذلك مقدمه لإتقانه العمليات الكبيرة كالتجارة والاستثمار في البورصة وغيرها.
أما البرامج الاقتصادية التلفزيونية فعليها بدلا من استغلال الجميلات ، الاهتمام بالتثقيف الاقتصادي، بتبسيط المصطلحات ، وتقديم إرشادات مبسطة للمواطنين حول اقتصاديات المنزل والحياة والبطاقات الائتمانية ومفهوم التقسيط والتخفيضات، وطرق الشراء الذكي، وتبادل السلع ، وغيرها ..
الثقافة الاقتصادية مهمة للفرد والأسرة والمجتمع .. والمجتمع الذي يريد أن ينهض اقتصاديا وماليا ويحقق الرخاء، يجب عليه أن ينهض من الأساس .. بنهوض اقتصاد المواطن البسيط .