.............
هذا هو عنوان المقال الذي كنت أود أن اكتبه، سيف ذهبي مغروس في الصدر، فلا أنا مت ولا أنا أعيش، نزف مستمر لن يتوقف إلا بالكتابة، ولكن من أين أبتديء الكلام؟، من أين لي بالكلمات التي تسع وقدة الانفعال ونزيف الروح ..؟
الفكرة صهيل الشمس، .. عصفور مشتعل الريش يحط كل لحظة في أقاليم القلب، ويطير، قد يمتد الحريق يوما، شهرا، عاما، حتى تأتي اللحظة الكبرى، لحظة الميلاد، تهتز القشرة الأرضية، يتفجر البركان حمما من نار وحروف، وبعد الهدوء تعود العصافير إلى أوكارها في أسراب جماعية، تشرق الشمس، وتولد الفكرة العظيمة، وتأتي الكتابة أنثى مليحة مجللة بالأكاليل، مضمخة بالعطر، مفعمة بالوضاءة، تمسح جبهتي المعروقة، فأبرأ وأقول .. الله ..!
.............
الصمت أحيانا يكون أبلغ من الكلام، الصمت قد يكون غضبا، وجعا، صراخا، ثورة، أيام طويلة والعبارة تذبحني، تصلبني على الجدران، وتقتلني في اليوم ألف مرة، ولكن اللحظة الكبرى لم تأت بعد ..
.............
أعظم مقالاتي تلك التي ولدت بدون تدخل مني أو وصاية، جنين يتكون ويتشكل، ثم تأتي اللحظة الفارقة، فيغدو كائنا يصرخ ويهز قدميه ورجليه، بركان يتفجر كميلاد الحقيقة..
.............
لم أفكر يوما في اغتصاب الفكرة أو سرقتها بالإكراه، فالفكرة ليست غانية تأتي بمجرد الإشارة، الفكرة امرأة أبية لا تؤخذ إلا بالحلال، لا تحل ضفائرها إلا لعاشقها الأمين ، قلعتها محصنة بالمتاريس ، لا تفتح أبوابها إلا للكاتب الفارس الذي يملك عهد الكلمة، وعلى قلبه وشم الله.
.............
هناك من يغتصبون الفكرة، يفتعلونها، يحضرونها كالجارية قسرا في الأغلال، ولكنهم بذلك يحصدون الفشل، يرتكبون دون ان يدركوا جريمة اختطاف، يجمعون المحصول قبل أن ينضج ويثمر، وتكون النتيجة حصاد نييء، كلمات باردة برودة الموت، صحراء قاحلة لا زرع فيها ولا ماء، يدورون في الحجرات بحثا عن فكرة، ولا يدركون أن الكتابة فعل إلهي، كالمطر والعواصف، ثمرة لا تطلع صدفة، وإنما لها جذور وأوراق، نهر يتدفق من منابعه الأولى، زخّات مطر ترسلها غيمة تزوجت ضوء الشمس، الكتابة تولد كما يولد القمر والمطر والعواصف وأفراخ الطيور، الكتابة لا تصنع، وإذا فعل أحدهم ذلك، فإنه لم يصنع سوى وردة جميلة من الزجاج..!
.............
مجرد عنوان لكائن مجهول، لا أستطيع تصوره، كبير صغير، قوي ضعيف، نار رماد، كل ما أعلمه انه سيأتي ويتجسد نبضا وروحا ووعيا وتأثيرا، طبق طائر سيأتي من كوكب بعيد، لا تعرف بمن سيأتي وماذا سيفعل، لكنه حتما سيأتي، لقد أرسل عنوانه المذبوح وبيارقه الحزينة ..!
.............
من أين يبتديء النزيف، والفكرة ليست درسا مدرسيا يشرح على السبورة، والمقال حدث لا يبرر كالخلق والحياة، ولكني أحاول اكتشاف الحالة، أستشرف المدى، سر هذا العنوان الممتليء بالحزن والفقد والألم والوجيعة..
.............
الحزن قدر الكاتب، حبله السري، بصمته الوراثية، إرث عربي أصيل ورثناه من التاريخ والعادات والأفكار، الحزن أحد العناصر الهامة في تكويننا .. طين وماء وحزن، فالحزين وحده يعرف قيمة السعادة والبهجة، والإبداع الحقيقي يخرج من بوتقة المعاناة .. الحزن سيف الكاتب الذي لا يفارقه أبدا حتى الموت ..
.............
ألقي رأسي المتعب فوق فراشي، أصابعي احترقت حتى غدت كأصابع الفحم، والكتابة مخاطرة، فعل انتحار، وقوف طوعي أمام العاصفة، التوازن على حد السكين.
.............
هذا هو عنوان المقال الذي كنت أود أن أكتبه ...، ولكني مازلت طرح الفراش أهذي كالمحموم..
معذرة يا سادتي .. لن أتمكن من استقبالكم .. ففي صدري ينام السيف .. وجسدي معلق في المشنقة ..!!