هناك مقولة شائعة تقول "لحوم العلماء مسمومة"، ولا أدرى من صاحب هذه العبارة الجهنمية، وهي عبارة هدفها الأساسي تمييز العلماء ، ورفعهم من مصاف البشر إلى مصاف الأسطورة.. تماما مثل أمنا الغولة أو دراكولا وأصحاب القدرات الخارقة، فاللحم المسموم أسطورة ، أو بالتعبير الدارج "فزاعة" لإخافة الناس.
الهدف غير المباشر والمهم للعبارة تهديد وترهيب من يفكر في نقد العلماء، وكلمة العلماء هنا لا تعني المخترعين والباحثين، ولكنها ترادف مباشرة رجال الدين أو الشيوخ، ورغم أنني أساسا لا أعترف بلقب "رجل الدين" لأن الإسلام الحقيقي ليس به رجال دين .. الإسلام يختلف عن الديانات الأخرى كالمسيحية مثلا والتي يوجد بها وظيفة اسمها "قسيس" ، واليهودية التي يوجد بها وظيفة "الكاهن" أو "الحاخام.
في الإسلام لا يوجد وسيط بين العبد وربه، لا توجد رهبنة ، ولا كاهن يتلقى اعترافات العبيد له، ويكون وسيطا بين العبد والله، في الإسلام العلاقة مباشرة بين العبد وربه، قال تعالى "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون".
أريد أن أعرف تاريخ ظهور العلماء في التاريخ الإسلامي ، لا أقصد بالعلماء الفقهاء والباحثين والعلماء، الذين يمارسون يوثقون الأحاديث، ويؤلفون الكتب الإسلامية، ويفسرون الدين .. بشكل تطوعي، ولكن أقصد فئة العلماء الموظفين الذين يتقاضون مقابل أعمالهم الرواتب. أريد أن أعرف كيف تحول العلم الديني من عمل تطوعي ورسالة إلى وظيفة . حتى تفاقم الوضع في عصرنا هذا ، حتى أصبح رجل الدين موظفا لدى الدولة يتقاضى راتبا ومخصصات، ليس ذلك فقط بل أصبح بعض العلماء أبواقا إعلامية لنظم معينة تتحدث بلغتها ، وتفسر الدين على هواها.. والأمثلة عندنا كثيرة.
كيف تحول العمل الفقهي إلى عمل يخضع للجغرافيا والطقس، .. مفتى يفتى بفتوى، ويأتي مفتى آخر ليفتي بعكسها.. ، وماذا يفعل المسلم أمام الفتاوى الكثيرة المتضاربة. ثم لماذا يحاول البعض منح حصانة للعلماء؟، لماذا يحاول البعض منح العلماء عصمة لا يملكونها، ويمنعون نقدهم ، وهم في الأساس بشر ، قد يصيبون ويخطئون.
وبصراحة ليس العلماء فقط من يطلبون الحصانة ، فئات كثيرة من المجتمع تريد أن تكون في منأى عن النقد والهجوم .. الحكام ، والسياسيون، والوزراء، ورجال الشرطة، والدبلوماسيون، ورجال الأعمال .. كثيرون يريدون أن يظلوا فوق القانون . لا يزعجهم أحد، ولا يقول لهم أحد : ماذا تفعل.. ، كثيرون يركبهم الوهم ، ويعتقدون أنهم بشر من نوع خاص .. "سوبر بشر" يجب أن يعاملوا معاملة خاصة.
من هنا كثرت الاستثناءات في المجتمع وتفاقم مرض التمييز. فهناك في بعض المطارات كاونترات لأبناء البلد، وأخرى للأجانب، وثالثة للدبلوماسيين، وفي المطارات أيضا هناك قاعة لكبار الزوار وأخرى لعامة المسافرين، هناك خدمات الـ VIP وخدمات الغلابة.. هناك محاولات دائمة للتمييز، وهناك استثمار لهذه الحاجة.
"لحوم العلماء مسمومة" عبارة تأتي في إطار محاولة تمييز فئة العلماء ورفعهم درجات ، رغم أن الناس كلهم سواسية كأسنان المشط، ومحاولة لمنح العلماء حصانة، فيتعذر عندها نقدهم، وإظهار أخطائهم ، ومحاسبتهم، .ومحاولة لمنحهم عصمة ، وهم في الحقيقة بشر لاعصمة لهم، العصمة لا تكون إلا للأنبياء. حتى الأنبياء معصومون في أشياء وغير معصومين في أشياء أخرى.
أشرف الخلق خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم معصوم في أشياء، وغير معصوم في أشياء .. ومن دلائل ذلك واقعة الأعمى الذي جاء للرسول الكريم ، فأشاح عنه، ونزلت في ذلك سورة "عبس" وفيها عتاب إلهي للرسول الكريم، قال تعالى " عبس وتولى أن جاءه الأعمى، فما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى".
النبي نفسه معصوم في أشياء، وغير معصوم في أشياء ، وهذا أحد أسرار عظمة النبي الكريم ، لأن النبي بشر، كان من الممكن أن يطلب النبي العصمة له ، باعتباره نبي، ولكنه لم يفعل ذلك، قال النبي "إنما أنا بشر يوحى إلي".
رجال الدين ـ أي دين ـ بشر ، وقد يصيبون ويخطئون، ومناقشتهم ونقدهم وإظهار الجيد أو الخطأ فيما يقدمونه واجب شرعي، وحق إنساني ، وهو يصب في دائرة الاجتهاد الذي حض عليه الدين. والدليل على ذلك أن العالم لو ارتكب ـ لاقدر الله ـ جريمة سيأتي البوليس للقبض عليه، وسيحاكم وفقا للقانون. ومن الأدلة أيضا أن القضاء المصري شهد وقائع لمخالفات أشخاص في موقع القضاء الديني، وتمت محاكمتهم، والحكم عليهم دون مجاملة أو تمييز. وأذكر من هذه الوقائع في مصر واقعة رجل دين "مسيحي" اتهم بازدراء الدين المسيحي، وتصوير أفلام خارجه في مقر الكنيسة، وقاضي شرعي "مسلم" راود سيدة عن نفسها مقابل تسهيل حكم طلاقها من زوجها.
محاولة منح العصمة للعلماء لا تجوز، ومحاولة تخويف العامة والدهماء من حتى مجرد التفكير في ذلك بالادعاء الأسطوري الذي يقول "لحوم العلماء مسمومة"، شيء لا يجوز. ومحاولة لتمييز الأشخاص تتنافى مع جوهر الدين وحقوق الإنسان .
الشيء الذي للعلماء وغيرهم من فئات المجتمع الحق في المطالبة به هو إتباع الأسلوب الصحيح للحوار والنقد، وهو أسلوب يبتعد تماما عن التجريح أو التقليل من الشأن .. للنقد الحقيقي آدابه وأخلاقياته التي يجب أن يلتزم بها الجميع سواء أكان الشخص المنقود مدرسا أو محاسبا أو حاكما أو عالما من علماء الدين.
وإن كان الواقع يشير إلى أن الشخصيات العامة تكون دائما معرضة للنقد، ويغفر الحس المجتمعي عادة حتى التجاوزات التي قد يفرزها النقد، باعتبار أن للعمل العام تبعاته، ومن ضمن هذه التبعات ما تتعرض له هذه الشخصية المشهورة من تجاوزات . وإن كنا بالطبع لا نرضى أن تصل هذه التجاوزات إلى درجة الجريمة. وهنا يمكن للقانون أن يمارس دوره في حماية الشخصية العامة، وعقاب المتجاوز في حقها.
العصمة الكاملة هي لله وحده، ورجال الدين بشر لاعصمة لهم .. وقد يخطيء البشر ويصيبون، من هنا لا مجال لجعلهم خارج النقد وخارج المحاسبة والتقييم .. ، فلنتوقف عن استخدام الفزاعات ، ولننشر معا آداب النقد ، وقيم المساواة والعدل، ونعلي جميعا سلطة القانون.