كل شيء في الحياة يحتاج إلى ترتيب، حتى الشجرة الجميلة التي نعتبرها جميعا رمزا للجمال إذا لم تخضع لتشذيب أطرافها كل فترة لتحولت إلى كيان فوضوي قبيح، يسيء إلى شكل الشارع، .. شعر الرأس يحتاج إلى الحلاقة، تصور لو بقى الطفل بدون حلاقة لمدة سنة ماذا يحدث، حتى الحمير تحتاج إلى قص شعر دوري ليكون شكلها مرتبا، وهناك حلاقون متخصصون في حلاقة الحمير.
الشوارع تحتاج إلى النظافة اليومية والترتيب لتعود إلى شكلها الحضاري، بعد يوم مرهق من الزحام والبيع والشراء، ولكن الواقع يؤكد أن شوارعنا تحفل بالقاذورات وإشغالات الطرق، والسيارات التي تقف في أي مكان، والبيوت تحتاج إلى ترتيب وتوضيب، حتى تصلح للإقامة الآدمية، وإن كانت الأمهات العربيات يعانين في ترتيب المنزل لساعات، ليأتي الصغار ليقلبوه رأسا على عقب في دقائق ، .. كل شيء يحتاج دائما إلى ترتيب وتنميق حتى لا يصبح فوضى دائمة.
ولكن المؤسف أن الفوضى أصبحت تأخذ حيزا كبيرا من حياتنا، كم من الأماكن الجميلة الساحرة امتدت لها يد الفوضى لتحولها إلى مقالب زبالة، وعلى العكس كم من مناطق فقيرة متواضعة نظمت ونظفت ورتبت فصارت آية من الجمال.
عندما زرت العاصمة التايلندية بانكوك أول ما أدهشني النظافة اللافتة في جميع الأماكن، حتى الأحياء الفقيرة نظيفة مرتبة، الشوارع والأرصفة ، وأسطح البيوت .. بيوت فقيرة نعم ولكنها نظيفة تجبرك على احترامها.
هل الفوضى سلوك اجتماعي يعود إلى الشخص نفسه، أم انه سلوك حكومي تقع مسؤوليته على الجهات الحكومية المسؤولة؟، في أحد الأيام فوجأ سكان إحدى العمارات بالقاهرة بسيدة أجنبية سكنت حديثا تنزل الشارع لتروي شجرة مقابلة للمبنى، في تصرف غريب أثار دهشة السكان، وعندما سئلت السيدة قالت أن هذه الشجرة رغم وجودها في الشارع، إلا أنها جزءا من طبيعة المكان، حيث تراها يوميا، ولا بد أن تعمل على أن تظل جميلة مزهرة.
النظام ثقافة وتربية، ولكننا نهمل هذا النوع من التربية، ونمارس الفوضى في كل مكان، في محطة الأوتوبيس، وأمام شباك السينما، وأمام المصالح الحكومية، ومباريات الكرة، في البيت والشارع ومقار العمل في، السياسة والشراء والأكل.
النظام ينمو ويزهر عندما يسود العدل الاجتماعي، ويعرف كل شخص حقه، ويطمئن في الحصول عليه، أما في حالة الظلم والواسطة والمحسوبية والطبقية ، ينهض كل شخص ويتشاجر لكي يحصل على حقه بيده.
في العالم الغربي إذا راقبت مكتبا للبريد سوف يدهشك هذا النظام الصارم في حركة المتعاملين ، كل يقف في دوره، بنظام دقيق كالساعة ، والمدهش أن هذا النظام يتم بدافع شخصي، فلا توجد تعليمات أو رجال أمن يلزمون الناس بأدوارهم، كل شخص يتحرك وفق ثقافة النظام .
أما في العالم العربي فالصورة مختلفة ، يمكن أن تتعرف عليها إذا زرت مكتب بريد في مدينة صغيرة ، أو فرع لبنك محلي ، نفس الأمر ينطبق على المصالح الحكومية، والمدارس ومقار الانتخابات، وبيئة العمل التي تعتمد في كثير من الأحيان على العشوائية، وفي الوقت الذي تتبع المؤسسات نظم الإدارة الحديثة ، مازال الكثيرون يؤمنون بمبدأ اجتماعي قديم وهو "البركة".
توغلت الفوضى في المجتمع فتجاوزت معناها الطبيعي كسلوك شاذ، وأصبحت وسيلة للتعبير عن النفس والتمرد والاحتجاج والفرح والاحتجاج والتأييد والحزن، وأصبح الكثيرون يعبرون عن الحزن وخسارة فريقه الرياضي وفقد المحبوبة بالفوضى وتكسير الممتلكات. حتى أن البعض يستأنس اللفظة، ويصف نفسه بأنه "كائن فوضوي".
والمؤسف أن تتكاثر الفوضى وتتجاوز الحدود لتصل إلى مسافات أبعد كالسياسة الخارجية والعلاقات بين الشعوب، وانتخابات الفيفا، والعلاقات العربية، والمؤسسات الدولية، وأجهزة الاستخبارات العالمية، حيث يحاول البعض توظيف الفوضى لأغراض سياسية واقتصادية، وباتت تستخدم للهيمنة والسيطرة وغزو الدول وتركيع الشعوب، استنادا إلى نظرية خبيثة هي "الفوضى الخلاقة"، والتي تعني أن الإصلاح يبدأ بالفوضى.
النظام سلوك يشترك فيه طرفان الأسرة والمدرسة والمجتمع من ناحية، وهي الجهات التي تعني بالتربية والتوعية وغرس السلوكيات الحسنة في نفوس الأبناء، والطرف الآخر هو الدولة بما تملك من نظم وإمكانات تستطيع من خلالها فرض النظام فرضا.
الطرف الأول دوره طبيعي، حيث تتولى الأسرة التربية، وتتولى المدرسة التربية والتعليم، ويتولى المجتمع بهيئاته التوعية، أما الطرف الثاني وهو الدولة، فإن النظام هدف أساسي لوجودها، وهو إضافة إلى أنه مطلب يسهل تقديم الخدمات لأفراد الشعب، فإنه أيضا مطلب أمنى ، حيث يوفر النظام سلامة الأفراد والمنشآت والمرافق العامة.
وفي مرحلة متقدمة عندما نغرس ثقافة النظام في أفراد الشعب، سيتراجع دور الدولة، ويصبح النظام ثقافة سلوكية يمارسها الناس بأنفسهم ويحافظون هم عليها كما يحدث في الغرب.
الفوضى لم تكن يوما خلاقة، فهي سلوك اجتماعي خطير يهدد السلم الاجتماعي، ويحول الشعب إلى مجموعة من الديوك المتصارعة، إذا تمكنت من بلد فتوقع الانهيار، .. الفوضى فئران كلما تكاثرت في مجتمع كان ذلك دلالة على اقتراب الطاعون.