لا أوافق على الأسلوب الذي يتم التعامل به مع ما اصطلح على تسميتهم بـ "السلفيين"، بالطبع أقدر حالة التوجس من سيطرة تيار متشدد على السلطة في مصر ، منتهزا مناخ الديمقراطية الذي أتاحته ثورة 25 يناير. أقدر المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد، والواقع الجديد الذي أخرج الجميع من القمقم، الصالح والطالح، الملتزم وغير الملتزم، الخيرين والأشرار، فعندما نجحت الثورة .. رفعت القمع عن الكل، فسمعنا لأول مرة كل الأصوات، الأصوات الجميلة والأصوات النشاز.
ولكن هذه هي قاعدة الديمقراطية، أن تتيح الفرصة للجميع. ولا تحجر على رأي، حتى لو كنت تعارضه، حتى لو كانت هذه الآراء غريبة، مثيرة للجدل.
أولا من المهم أن نؤكد اعتراضنا على وصف "السلفيين"، لأن المسلمين في الحقيقة سلفيين يتمسكون بالكتاب والسنة، من هنا فإن حصر فئة من الناس تحت مسمى السلفيين يشير ضمنا إلى أن المسلمين الآخرين غير سلفيين. المسلم الحق هو في الأساس سلفي يؤمن بالكتاب والسنة، يعتنق الإسلام الوسطي المعتدل، والسلفية الحقيقية منهج اعتدال ووسطية.
نفس الموقف نتخذه من الإخوان المسلمين، حيث نرفض حصر الإسلام العظيم في فئة أو جماعة، أو فئة، من هنا فإن الأصوب أن نطلق على هؤلاء لقب "بعض السلفيين"، كذلك عندما نصف جماعة الأخوان نقول "بعض الأخوان المسلمين".
أثار بعض السلفيين في الفترة الأخيرة حالة من الجدل ، بسبب كلام صدر من أحد شيوخ السفلية وهو محمد حسين يعقوب بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وبعد أن صوت أكثر من 72 في المائة من المصريين بـ "نعم" على التعديلات، حيث أطلق الشيخ يعقوب على نتيجة الاستفتاء وصف "غزوة الصناديق".. ورغم أن الشيخ عاد واعتذر بعد أن جوبه بانتقادات هائلة ، وقال أنه "يهزر" فإن ذلك لم يهديء الهواجس.. هواجس المسلمين قبل المسيحيين.
ومن المواقف التي زادت من الهواجس أيضا ما قيل أنها محاولات لهدم الأضرحة، بدعوى أن اتخاذ القبور مساجد حرام، وأن زيارة الأضرحة شرك بالله.. ، ومن ذلك أيضا اقتراح أحدهم أو "بعضهم" ـ لست أدري إنشاء هيئة لتغيير المنكر باليد.
ورغم تفهمي الكامل لهواجس معظم فئات الشعب المصري، سواء أكانوا مسلمين أو مسيحيين من بروز تيار متشدد يعيدنا 100 عاما إلى الوراء، يستغل الدين لقمع الحريات. فإنني أرى أن هناك مبالغة في تصور حجم هذا التيار . بل أنني أتهم بعض وسائل الإعلام بتضخيم الأمر، سواء عن حسن نية أو سوء نية أو سوء تصرف، ومحاولة استحداث فزاعة جديدة بعد فزاعة الأخوان اسمها "فزاعة السلفيين".
لا أنكر خطر هذه الدعوات التي تنادي بهدم الأضرحة ،وإنشاء جهة لتغيير المنكر، وغيرها من الممارسات التي تصب في خانة فرض الوصاية على المجتمع، ليس الوصاية فقط ، بل التسلط ، بينما الدين الحقيقي يدعو إلى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
الإسلام الحقيقي ليس مجموعة من الشكليات والمظاهر، ولكنه دين يعتبر النوايا هي معيار التقييم ، "إنما الأعمال بالنيات"، "إن الله لا ينظر إلى وجوهكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم"، ولو فرض ووجدت ظاهرة مخالفة، فإن الأسلوب الوحيد المقبول هو الحوار حولها، وليس فرض الرأي، وتغيير الواقع بالقوة.
ماذا يهمنا لو كانت الصورة حسنة بينما الجوهر خرب؟، ماذا يفيد أن نمنع الأضرحة من المدن، بينما يعبد كل منا ضريحا داخله من العادات والتقاليد المهترئة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟. ماذا يفيد لو ظهرنا في الشوارع على أكمل صورة من الالتزام والوقار والتقوى، وفي داخل منازلنا نمارس الظلم والفسق والفجور.
تغيير المنكر باليد لا يجدي، لأننا وإن نجحنا في إخفاء المنكر من الصورة لتكون الصورة جميلة، ومن الشارع لكي يكون نظيفا مرتبا، فكيف نضمن تغيير منكر النفوس والأسوار والجدران الساترة.
الإسلام الحقيقي دين دعوة وحوار وإقناع وإيمان .. نعم إيمان، فما الجدوى من أن تظهر الورع والتقوى والإيمان ، بينما أنت في داخلك تصادق الشيطان.
أكرر رغم الهواجس، فإن هناك تضخيم لما حدث من "بعض" السلفيين، لأن معظم الشعب المصري يعتنق الإسلام الوسطي المعتدل . هكذا تربينا ونشأنا أنا وأنت ، وكل الطبقة المتوسطة التي لا تقسم الدين إلى دين شكل ودين جوهر، فالإسلام لديها شكل وجوهر. الأسرة المصرية المسلمة لا تعرف التشدد، وتؤمن أن الاعتدال هو جوهر الدين.
من هنا فلا خوف من ظهور صوت هنا أو صوت هناك ، أو حتى جماعة هنا أو جماعة هناك تنادي بالتشدد. لأن معظم المسلمين "السلفيين أيضا" يرفضون التشدد . إضافة إلى كل الأخوة المسيحيين.
أتمنى أن نتعامل مع التصريحات المخالفة كتصرفات فردية، ونؤمن أن أصحابها كبروا أم صغروا "قلة" ، ولا نبالغ في الخوف، لأن التشدد الديني أصلا في العالم ينحسر، وأن المستقبل للإسلام الوسطي المعتدل. وبلغة أصح .. الإسلام الوسطي سيعود ليكون هو إسلام القرن الجديد. والعالم الجديد.
يجب أن نحترز، وأن لا نحول الإشاعات والهواجس إلى وقائع، ونحول التصرفات الفردية إلى عامة، وأن نجعل ـ بالإعلام ـ من "الحبة قبة" كما يقول التعبير الشعبي، فنصنع بأنفسنا وبأيدينا شبحا جديدا وفزاعة جديدة ليس لها وجود.
وحتى لو توجسنا واستنكرنا هذه الدعوات المخالفة للقبول الجمعي، يجب أن لا نصادرها، لأن الحرية ـ كما قلت ـ أفرجت عن جميع الآراء الصالحة والطالحة، والديمقراطية الحقيقية تؤكد حقنا في رفض الرأي، ولكن ليس من حقنا أن نقمعه، ونخون صاحبه، ونسبه، ونشتمه. ونخوف به الناس، الديمقراطية تتيح لنا طريقة واحدة للتعامل مع الآراء المخالفة وهي الحوار والنقاش .. ، وهو نفسه ما يدعونا له الدين .. الحكمة والموعظة الحسنة.