منذ الأزل والإنسان تعود على المشاركة الاجتماعية، فالإنسان كائن اجتماعي في الأساس، لا يمكن أن يعيش وحيدا، يستمد قوته من بعضه البعض، لو فرضت عليه العزلة، سيموت وحيدا، لذلك كان الناس يشاركون بعضهم البعض في الأفراح والأحزان، فحزن الفرد هو حزن الجماعة، وفرحه هو فرح الجميع، في حالة الوفاة ترتدي سيدات الحي الملابس السوداء، وتتحول البيوت إلى مأتم كبير، ويمنع تشغيل التلفزيون، فلا تستطيع تحديد منزل المتوفى، والصراخ والعويل ينطلقان على ألسنة النسوة بنفس الحماس والانفعال ونفس الوجيعة، وكأن كل منهن قد فقدت ابنا أو قريبا.
والرجال يجتمعون في سرادق صغير في الشارع ليستقبلون جميعا العزاء، ويخرج كل منزل صينية طعام لضيافة المعزين القادمين من بلاد بعيدة، وتؤجل الأسر مناسباتها الخاصة بالزواج أو أي شكل من أشكال الاحتفال حرصا على مشاعر أسرة الفقيد.
وفي الفرح كانت حناجر النساء تتبارى في تقديم أفضل أنواع الزغاريد، وكان الفرح فرصة لبنات الحي ليظهرن مواهبهن في الرقص الشرقي الذي يتم بين النساء، والرجال يمارسون التحطيب في الساحة المعدة للاحتفال.
في البيئة الشعبية لا مكان للخصوصية ولا الأسرار، إذا تشاجر رجل مع زوجته، فإن "الديالوج" يكون مسموعا عن طريق البث المباشر للجيران، وإذا صرخت سيدة بسبب اكتشاف فأر ستجد في لحظة الجارات واقفات أمامها كل منها تحمل مقشة.
كانت الحياة بسيطة، ولكنها جميلة مفعمة بالتراحم والتواد ودفء المشاركة، إذا أقيمت مناسبة لدى جار، خرجت قوافل الدعم والمساعدة من البيوت، فهذه تتطوع بكراسي السفرة، وتلك تقدم طقم الصيني، ويتشارك الجيران في تعليق لمبات الفرح البسيطة المغطاة بالسلوفان الملون، وبسرعة تتحول كل البيوت إلى أفراح.
أفراح الطبقة الفقيرة والمتوسطة كانت تقام على أسطح المنازل وفي الشوارع وفي السرادقات، وكانت كلها رغم بساطتها حافلة بالبهجة والفرح والمشاعر الإنسانية الفياضة.
وكانت "النقطة" قانون اجتماعي جميل، حيث يساهم الأقارب والأباعد والجيران في تقديم مبلغ مالي للعريس، ليستعين به في قضاء تكاليف الزواج، ونفقات الحياة الجديدة، وفي الوقت الذي تتوالى فيه النقطة، كان هناك من يجلس ليدون الأسماء والمبالغ التي ساهمت بها، للعمل على رد هذه المبالغ لأصحابها في الأفراح، وكان تعبير "نردهالك في الأفراح" تعبير عفوي يشير إلى عمق الامتنان لمشاركة الجار.
وقد جسد فيلم "الفرح" ببراعة هذه اللقطة الإنسانية المصرية، وهي لقطة المشاركة في الأفراح، ولكن بصورة أخرى أكثر مأساوية، من خلال حكاية مواطن فقير كان يساهم دائما في تقديم "النقوط" للآخرين في الأفراح، ونظرا لعدم وجود مناسبة لديه يمكن عن طريقها استرداد النقوط، وجد في "اختراع فرح" وسيلة للخروج من أزمته المالية، وشراء ميكروباص، وذلك عن طريق "النقطة" التي يتم جمعها، فكان "الفرح الكاذب" هنا وسيلة يائسة لتحقيق الأحلام، ولكن "الفرح" الذي وضع عليه المواطن آماله ينتهى بمأساة.
هذه المشاركة الاجتماعية العفوية كانت تتم دائما في كل مكان، في العمل والشارع والبيت، وكان الجار يعبر عن الفرح بنجاح ابن جاره أو ذهابه للحج أو إنجاب مولود بما يسمى "زيارة" ، وكانت الزيارة في الماضي تتضمن الأوز والبط والديوك الرومية أو الفطير المشلتت، أو زجاجتي شربات وقمعين سكر، وصندوق "كاكولا" ـ كما كانت تنطق قديما، وتعبير قمع السكر جاء لأن السكر قديما كان يباع في شكل قموع وذلك قبل مرحلة السكر السائب أو المكعبات.
أتذكر زجاجة الشربات القديمة الغامقة المبرشمة بالبيلاستيك الأحمر، والتي كانت تشبه زجاجة الكونياك، ولكنه كان كونياك شرعي، وكيف كانت الزجاجة الواحدة تكفي لعمل أكثر من 100 كوب شربات، وأتذكر أيضا طعم الشربات اللذيذ الذي كان له طعم الدفء والحنين.
كان الشربات مشروبا شائعا في الأفراح، ربما لرخص سعره، ولطعمه الحلو الذي يناسب المناسبة السعيدة، وكانت السيدات يقمن بما يسمى بـ "بل" الشربات في أواني كبيرة تكفي لضيافة الحي بأكمله.
وكان الشربات شائعا لدرجة أنه دخل القاموس الوصفي للعامة، حيث كان من يريد أن يمتدح شيئا يصفه بـ "الشربات"، .. "كلام شربات، "بنت زي الشربات".. وتوصف خفة الدم بالقول "دمك زي الشربات"، وهكذا.. ، وكان البعض يسمى ابنته "شربات". حتى أن اللفظة أصبحت مثلا شهيرا يقول "يصنع من الفسيخ شربات".
كل زيارة اجتماعية يجب أن تتضمن زجاجات الشربات، وكل مناسبة نجاح أو ولادة أو طهور أو عمرة أو حج أو شفاء كان القاسم المشترك بها هو الشربات.
ولكن مع التطور اختفى الشربات من الثقافة المصرية، وحلت بدلا منه أشكال متعددة من الحلوى والجاتوه والشوكولاته والبنبون، التي تلفت الانتباه، ولكنها لا تلفت المشاعر، واختفت مظاهر البهجة التي كانت تنشرها الزجاجة الملونة، وطقوسها والصواني التي كانت توزع أكواب الشربات على الأهل والصحاب وحتى المارة في الشارع.
والأكثر أن التواصل نفسه اختفى تحت ضغط تسارع الحياة، والمشكلات الاجتماعية، وتغير نمط السكن التقليدي الحميم الذي كانت الأسر فيه كالعقد في أسرة واحدة، إلى نمط المنازل الأسمنتية التي تتكون من شقق متعددة في عمارات شاهقة باردة.
رغم مرور السنوات، وتفرق الأهل والجيران والصحاب في عجلة الحياة، مازال طعم الشربات في فمي، ومازال دفء اللقاء كالمعدن المشع يسري في النفوس والأوصال، ويزيل من حين لآخر من على سطح الروح قطع الثلج الصغيرة المتراكمة.