عندما يقتل رجل زوجته، تبحث الشرطة عن الدافع وراء الجريمة، لكي تتكامل أركان التحقيق، ولكن هناك جرائم تتم بدون دوافع، يرتكبها مجانين لا دوافع لهم، مثل جريمة المتشرد البلغاري الذي هاجم سيدة بريطانية (62 عاما) طعنا في جزيرة تينيريفي بإسبانيا منذ أيام، وفصل رأسها عن جسدها، ثم حمله وركض، وبعد القبض عليه، وعندما حققت الشرطة في الدوافع، فشلت في معرفة الدافع وراء الجريمة.
الجريمة الإنسانية توحشت وتطورت وتعقدت، حتى بتنا نرى الكثير من الجرائم تحدث لأسباب تافهة كالغضب أو التسلية أو لفت النظر، أو الاعتراض على ظلم. الكثير من الجرائم تحدث بلا دوافع، أو قل بلا دافع أو مبرر حقيقي.
في الغرب يوجد القتل بلا هدف، ويوجد أيضا القتل لأسباب غريبة كالمتعة . وهناك القتل المتسلسل الذي يرتكبه مجنون، وهناك القتل بالنيابة عندما يستأجر الشخص قاتلا مأجورا ليقتل نيابة عنه، وليس شرطا أن يكون هناك قاتل وضحية، ففي بعض الأحيان يقتل المرء نفسه بالانتحار ليكون القاتل والضحية واحد. وهناك أيضا "القتل الرحيم"، وهو قتل المرضى الميئوس من شفائهم، وهناك كذلك المساعدة على القتل الرحيم وهي جريمة غير مدانة في بعض الدول مثل أستراليا.
ولكن لماذا في جرائم التطرف كالاعتداء على دار عبادة أو الاعتداء على عرقية، أو أتباع دين نهتم كثيرا بالدوافع. حتى أنه في كثير من الأحيان تتقزم الجريمة، وتتعاظم الدوافع. في الجريمة الطائفية يكون الأمر أكثر إثارة، حيث يجعل اختلاف الدين الأمر مثيرا، وتكون الفرصة أكبر لتجييش جبهتين متصارعتين ، والفرجة، تماما كما كان الإنسان المولع بمشاهدة الدم يستمتع بصراع الديكة، أو صراع البشر الذي ينتهي بمقتل أحد الأطراف.
معرفة الدوافع قد تفيد في معرفة الحالة النفسية التي تسيطر على القاتل، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تخفيف العقوبة وأحيانا إلى إلغائها كما يحدث في جرائم الشرف في الدول العربية الغارقة في الجهل والتي تقنن الجريمة تحت ستار الأخلاق.
ومعرفة الدوافع قد تروي الفضول الإنساني، لتكون بذلك مادة ثرية للنميمة بين الأصدقاء وبين الجارات، وفي الصحافة الصفراء التي تبحث عن الإثارة، ومعرفة الدوافع أيضا قد تفيد في حل أسرار الجريمة، وربما تفيد في دراسات بحثية تنظيرية عن اتجاهات الجرائم ودوافعها . ولكنه على أرض الواقع الدوافع لن تفيد. لأن الجريمة .. جريمة ، مهما اختلفت الدوافع والمبررات، حتى ولو لم توجد مبررات.
ولكن أيا كانت الدوافع ، فالجريمة .. جريمة مهما كان دافعها أو مرتكبها، ونحن في مجال مكافحة الجريمة لا نستطيع القضاء على الدوافع كالغيرة والحقد والسرقة والاغتصاب والانتقام وغيرها من الشرور الإنسانية.
الجريمة جريمة سواء أكان المجني عليه رجلا أو امرأة أو طفلا، مسلما أو مسيحيا أو حتى بلا دين، والجريمة جريمة حتى لو كان المجني عليه إنسانا أم حيوانا، حيث نظرت محكمة في مدينة كرفيلد بغرب ألمانيا قضية قتل ضفدع، .. نعم ضفدع، والمتهم هنا رجل ألماني كان على خصام مع صاحب البركة التي كان يعيش بها الضفدع، وذلك بسبب انزعاجه من نقيق الضفادع المستمر ، مما جعله يقتل الضفدع بالرصاص ، الأمر الذي جعل صاحب البركة يقوم بإبلاغ الشرطة، وسوف يمثل المتهم أمام القانون بتهم متعددة منها خرق قانون حماية الحيوان، وحيازة السلاح، بالإضافة إلى إحداث أضرار مادية.
أيا كانت الدوافع، فنحن أمام جريمة يجب أن نتعامل معها ونحقق فيها، ونصدر الحكم الرادع. سواء أكانت الجريمة دافعا الغيرة أو الخلافات الأسرية، أو النصي، أو الانتقام أو التطرف.
هل بوسعنا أن نلغي الجرائم من أجل الانتقام .. لا ، هل بوسعنا إلغاء الجرائم الناتجة عن الرغبة في السرقة .. لا ،.. لا يمكن أن نلغي الشرور الإنساني، ونؤسس للمدينة الفاضلة الخالية من الجريمة. لأن الجريمة ستبقى طالما وجد الخير والشر في ذات الإنسان .
الجريمة موجودة منذ سنوات بعيدة وقبل حتى أن يخلق الكون، عندما قتل قابيل أخاه، بسبب الحسد والغيرة، بل أن الجريمة وجدت حتى في الجنة عندما خالف آدم عليه السلام تعليمات ربه، وأكل من الشجرة المحرمة. ما نستطيعه هو الردع الأمني، والذي يعني القبض على المجرم، والحكم عليه بالقانون، ليلقى جزاءه الرادع. أما عملية التوعية فمع تقديري لها، فلن تنجح في ردع الدوافع والعقول الجاهلة والنفوس الفاسدة التي تجنح إلى الشر.
الجريمة الطائفية موجودة في كل المجتمعات، في الغرب والشرق والشمال والجنوب، قد تزيد أو تنقص، ولكنها موجودة، وهى نتاج لمرض اجتماعي خطير وهو العنصرية، وفيها ينحاز الشخص لعنصر أيا كان هذا العنصر، دين أو عرق أو طبقة اجتماعية، وإذا فرض جدلا أننا تمكنا من القضاء على الدافع الطائفي، وهذا مستحيل، فهل نستطيع القضاء على الدوافع الأخرى للجريمة الكثيرة والمتشابكة والمعقدة؟.
لماذا لا نتعامل مع الجريمة الطائفية على كونها جريمة كأي جريمة، كالسرقة أو القتل أو النصب أو السب والقذف. وماذا ستفيدنا معرفة الدوافع .. كل الجرائم وراءها دوافع، لماذا هذه الصدمة التي تنتابنا عندما تقع جريمة ذات بعد طائفي، وكأنه لا تحدث يوميا مئات الجرائم التي يوصف الكثير منها بالبشع.
لا أحاول التقليل من الجريمة الطائفية، ولكني أرفض تمييزها عن الجرائم التي تحدث كل يوم في المجتمع . أرفض أن ننفخ في الجريمة العادية المحدودة لكي تصبح ظاهرة تتناولها وسائل الإعلام بالتحليل والتنظير، لتوغر بذلك الصدور، وتشيع الفكرة، وتروج للانتقام والفعل المضاد.
بالطبع نرفض الجريمة الطائفية، كما نرفض أي جريمة تلحق بالإنسان أو حتى الحيوان والنبات. ولكن أول خطوات الحل أن نتعامل معها كجريمة عادية، السبيل الوحيد لمواجهتها هو اللجوء للشرطة التي من واجبها أن تعيد الحق لأصحابه أيا كانت اتجاهاتهم وعرقياتهم وأديانهم. بذلك نحل المشكلة، والأهم نمنع الأخوة الأعداء من استثمار جرحنا ومصابنا لتحقيق مكاسب خاصة.