المرض يصيب الإنسان، ويصيب أيضا الحيوان، كذلك يصيب المرض النبات، والكائنات الحية، ولكن الجديد أنني اكتشفت أن المرض قد يصيب أيضا الشعوب، فالمتابع للشعوب العربية سيكتشف أن بعضها مصاب بأمراض اجتماعية محددة، حيث يمكن اكتشاف سلبية ما ينفرد بها هذا الشعب دون الآخر، وهناك أيضا شعوب ابتلاها الله بمجموعة من الأمراض.
الأمر ليس فزورة، أو ضربا من التخيل، ولكن إذا دققت جيدا ستكتشف أن هناك شعوب طغت فيها سلبية ما، حتى أصبحت أشبه بسمة عامة لهذا الشعب، بالطبع لا أقصد التجريح أو السخرية من هذا الشعب أو ذاك، ولكن ما أود تلمسه والوصول إليه هي الأمراض الاجتماعية التي تصيب الشعوب، والتي يهملها الجميع.
بالطبع توجد سمات شكلية يمكن الاستدلال بها على جنسية دون الأخرى، فالشعب الياباني مثلا يتميز أبناؤه بالعين الواسعة والجفن الضيق، والشعب الباكستاني يتسم أبنائه باللون القمحي والعيون الحادة والشعر الأسود، والفرنسيون يتسمون غالبا بالنحول حتى أنه يضرب المثل بقوام المرأة الفرنسية الرشيق الدقيق.
في المقابل هناك أيضا أمراض اجتماعية يعرف بها كل شعب، على سبيل المثال ـ ودون تصريح ـ هناك شعب مصاب بالاتكالية، وآخر مصاب بالبرود، حتى أن هذا البرود ضرب به المثل عالميا، وشعب ثالث معروف بالعنف الاجتماعي.. والموضوع ليس مستحيلا، ألم تتوصل دراسات إلى انتشار أمراض محددة في مناطق محددة أكثر من غيرها؟، إذن فانتشار أمراض اجتماعية محددة في شعوب محددة أمر طبيعي.
ما يعنيني الآن .. الأمراض الاجتماعية التي أصابت الشعب المصري. الشعب الوحيد الذي يحق لي أن أنقده، وأحلل أمراضه وأطواره، دون أن اتهم بتهمة "الإساءة" الجاهزة، ووصمة "الحقد" التقليدية التي يرددها العرب كثيرا في مواجهة أي نقد.
هناك مرض اجتماعي خطير يقلقني ظهر في السنوات الأخيرة بوضوح في الشخصية المصرية، وهو ضعف رابط الوطنية والانتماء لدى فئة ليست قليلة من المصريين، فكثيرا ما نجد "المصري" ناقما على وطنه وواقعه، متشائما من مستقبله، وفي كثير من الأحيان يتعدى الأمر حدود السخط الشخصي، والنقد الموضوعي ليصل إلى حد السب والتجريح.
قد يكون الأمر مرحلة مرضية متقدمة من جلد الذات، وقد تكون هذه الظاهرة في أحد أشكالها امتدادا لحرية النقد التي يتمتع بها المصريون، خاصة في السنوات الأخيرة، والتي تتيح للجميع ـ في الغالب ـ نقد الأحوال المعيشية والفساد الاجتماعي، والمسؤولين، والنظام السياسي، بل ونقد رئيس الدولة نفسه، دون أن يعترض أحد، رغم أن القاعدة تقول "إذا بليتم فاستتروا"، وقد يفلسف أحدهم الأمر، ويرى أن شدة نقد المصري لوطنه نابع عن حبه العميق له، ورغبته في أن تكون أفضل، جريا على مقولة "من الحب ماقتل".
ولكن المدقق سيكتشف أن بعض المصريين يتطرفون في النقد، ليصل الأمر إلى السب والتجريح،.. قد يبدأ النقد لظاهرة ما، ثم يمتد إلى الهجوم على الوطن نفسه، وتاريخه ورموزه، وقد يتطرف هذا الشعور ليصل إلى إهانة الوطن، في صورة مقززة ومؤلمة يستنكرها الكثيرون.
قد نقبل من المصري نقد واقعه، والسخرية منه بالكلمات والنكات، حيث عرف المصري دوما بقدرته على السخرية من واقعه، والتغلب على مشكلاته، والضحك عليها، بالنكتة والمثل الشعبي، والأعمال الأدبية والغنائية والزجلية الناقدة، بدءا من بيرم التونسي ومرورا بالشيخ إمام، ولكن إهانة المصري لبلده مرض اجتماعي خطير يجب أن نتوقف عنده، ونضع آلاف من علامات الاستفهام؟؟؟.
نحن إذن أمام أزمة أخلاقية كبيرة. الأمر أشبه بمن تمرض حبيبته فيهجرها، أو تكبر أمه وتصاب بالشيخوخة، فيضعها في دار مسنين، وسب الوطن والسخرية منه أشبه بسب الابن لأمه، وما ينطوى عليه ذلك من نكران وجحود.
إنني لا أرفض النقد للأوضاع المعيشية والسياسية. بل نقد رئيس الدولة نفسه، لأن حرية الرأي وماوصلت إليه في مصر في السنوات الأخيرة مكسب كبير يجب الحفاظ عليه، ولكن ما أرفضه هو التحالف مع اليأس، وأن يصل الأمر إلى تجريح الوطن، وخزلانه، والتآمر علي، وبيعه في أول سوق.
مصر العظيمة قد تمرض، ويتجعد جلدها الرقيق، فتبدو عجوزا، ولكنها تجدد خلاياها، وتعود بسرعة إلى عنفوانها الجميل، قد يعلو معدنها الأصيل بعض الأتربة، ولكن بمجرد نفخة هواء يزول التراب، ويلمع مدنها الأصيل ويبهر الأبصار ، فنقول جميعا "الله"..، وهذه عظمة مصر، بعد نكسة 1967 وفي ست سنوات فقط أعادت مصر الأبية بناء جيشها، وعبرت عام 1973 أصعب الموانع في تاريخ العسكرية العالمية .. قناة السويس والسد الترابي وخط بارليف وهزمت إسرائيل.
إذا ضعف انتماء الشخص لوطنه، هان عليه، ومن يهون في عينه الوطن، سيسهل الهوان عليه، ويقول الشاعر (ومن يهن يسهل الهوان عليه). في الوقت الذي يعرف المصريون بالفخر بتاريخهم وأمجادهم والروابط التقليدية التي تربط المصري دائما بوطنه، حتى أن البعض يستفزه هذا الفخر، هناك للأسف فئة ليست قليلة من المصريين ضعف لديها الانتماء، ولذلك لاشك أسباب..
ضعف الانتماء قد يكون سببه هجرة المصري إلى بلد أخرى وجد فيها وضعا اقتصاديا أفضل، فوجد بذلك ـ كما تصور ـ الوطن البديل، فصار الوطن الأم فندقا يزوره كل عام يذكره بالواقع المؤلم، فقلت الروابط أو انعدمت، وقد يكون السبب الواقع المؤلم الذي يعيشه المصري داخل الوطن، هذا الواقع الذي أفقده الثقة في كل شيء.. في حاضره ومستقبله، وتمكن منه اليأس الاجتماعي، فصار شخصية سيكوباتية، غير سوية تصارع نفسها، وتجرح نفسها وتمزق وجهها دون أن تدري..!.
مرة أخرى .. ماهو سبب هذا المرض الاجتماعي القاتل الذي أصاب المصريين..؟، هل يرجع السبب إلى الوضع الاجتماعي والسياسي المصري الذي لم يتطور في السنوات الثلاثين الأخيرة، أم أن السبب يعود إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية والفساد والفقر والفساد السياسي، والوضع الاقتصادي الصعب الذي تعاني منه فئة ليست قليلة من المصريين؟، وهل المصري أكثر وطنية من الآخرين لدرجة أننا لا نجد هذه الظاهرة في الشعوب الأخرى؟.
هل قامت إسرائيل ببث غاز كيماوي في المدن المصرية ، يصيب الشخص بالضعف واليأس ، هل هناك مرض جماعي غامض أصاب المصريين بالعجز، كما صور فيلم "النوم في العسل" لعادل إمام، وكما صورت أفلام الخيال العلمي التي تحدثت عن مخترعات حديثة تمكن البعض من السيطرة على أدمغة الشعوب؟.
هل في الأمر مؤامرة، وفقا لنظرية المؤامرة الشهيرة التي نرجع لها كل شيء؟، أم أنه عمل استخباراتي وحرب نفسية شاركت فيها قوى معادية هدفها تدمير الشخصية المصرية، وإصابتها بالعجز واليأس والفشل؟. أم أن هذا الأمر يشبه حالة "الكوما" الجماعية ، شخص أو مجموعة أصيبت بمرض الاحباط واليأس، فنقلت المرض إلى الكثيرين، كما حدث منذ سنوات عندما أصيبت طالبات إحدى المدارس بحالة إغماء جماعية دون معرفة السبب.
الأمر أشبه برجل يملك أيقونة ذهبية ثمينة، وفي المقابل ثعلب مكار يحاول أن يقنع الرجل أن الأيقونة التي يحملها لا تساوى شيئا، وهو يهدف في ذلك إلى أن يصل الرجل إلى مرحلة يصدق فيها الأمر، ويصدق أن الأيقونة الذهبية التي يحملها ماهي إلا قطعة صفيح، فيتركها، فيستولي عليها الثعلب المكّار.
الغريب أن هناك مزايا تتمتع بها الشخصية المصرية لا توجد في الشعوب الأخرى، وهناك أيضا سلبيات يتسم بها المصريون لا توجد في الشعوب الأخرى، أبرزها هذه السلبية الغريبة والعجيبة والمستفزة، وإذا كنا نفرح عندما نرى المصريين روادا في الكثير من المجالات، نرفض أن ينفردوا أيضا بالريادة في الاحباط وسباب الوطن، مهما كانت الدوافع والأسباب.
هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة اجتماعية وافية، تضع الأمن القومي والاجتماعي في المقدمة، لأن هذا المرض الاجتماعي لو استفحل وانتشر سيكون أشد خطرا على الشعب من القنبلة النووية، سيحصد في طريقه الملايين.
أتمنى أن تفتح مراكز البحوث العربية ملف "أمراض الشعوب"، وتضع على طاولة التشريح الشخصية الشعبوية وأمراضها وأطوارها، والعمل على استحداث مضادات لليأس وضعف الانتماء، والإتكالية، والطبقية، والعنف ..، وغيرها من الأمراض الاجتماعية التي تصيب الشعوب.