التثقيف فعل جماعي، فالثقافة في مفهومها الإنساني مصدر شمولي يعتمد على التأثير في مجموعة أو مجموعات. لذلك كانت الثقافة فعلا موجها للكافة . لا تفرق بين أبيض وأسود . فقير وغني. من يتحدث بالعربية ومن يتحدث باللاتينية. من ينتمي للعالم الأول ، ومن ينتمي للعالم الأخير. من هنا نجت "الثقافة" على مر العصور من أدران شائعة مثل القولبة والتعصب والإقليمية والنعرات الشخصية والطائفية.
فأنت تقرأ للمتنبي مثلا لا تعرف شكله أو جنسيته أو وضعه الاجتماعي . فقط تقرأ له، ويقرأ له الجميع . كذلك نفعل مع ت . س. أليوت، وأرنست همونجواي، وعبد القاهر الجرجاني وأرسطو ..، وغيرهم من المبدعين الذي قدموا للإنسانية إبداعاتهم الثقافية ورحلوا بكبرياء وإيثار، وظل هذا الإرث الثقافي يتراكم ليشكل في النهاية إرث الثقافة الإنسانية المنزهة عن الغرض.
ورغم تلوث الكثير من المعاني في حياتنا اليومية بالفئوية والجهوية والقبلية والجنسية والقومية والإقليمية.. والتعصب المقيت بدءا من كرم القدم إلى الانحياز الدولي. ظلت الثقافة ـ في معظم الأحيان ـ بعيدة عن التسييس والتأطير والاستحواذ وصكوك الملكية وقوانين البيع والشراء، وكل المحاولات التي ظهرت على مر التاريخ لـ "تخصيص" أو "تجنيس" الثقافة منيت بالفشل الذريع.
ولكن الأحداث التي حدثت في انتخابات اليونيسكو الأخيرة ـ وبغض النظر عن الفائز ـ أزعجتني بشدة . ليس لضياع فرصة الفوز من عربي كان من الممكن أن يعيد لليونيسكو الكثير مما فقدته، ولا حتى لما دار بها من تربيطات وتعصبات ـ كما نشر ـ جعلتها شبيهة بالانتخابات في بعض الدول العربية، ولكن ما أزعجني بشدة هو خضوع "الثقافة" ـ ربما لأول مرةـ بهذا الحجم وهذه الجرأة إلى قوانين الشارع .. التعصب والانحياز والفئوية وألاعيب السياسة وغيرها من الأدران.
الثقافة بمدلولاتها الإنسانية التي لا تتجزأ هي القارب الأخير الذي نتعلق به لاستعادة القيم الإنسانية الأخرى التي ضاعت بين الأمواج، الفرصة الأخيرة لتحقيق الوحدة العالمية الحتمية التي يجب أن تكون.
فهل ننجح في إنقاذ "الثقافة" من مؤامرة التسيييس والأقلمة والعنصرية التي شهدتها أروقة المنظمة "الثقافية" الدولية؟، أم تصبح "الثقافة" ضحية جديدة للإنسان. مثلها مثل السياسة التي تركها الإنسان للأهواء والمصالح، والتكنولوجيا التي استخدمها في صنع القنبلة النووية الجهنمية، والطبيعة التي خربها بالنفايات والاحتباس الحراري؟.