توصل علماء في جامعة جونز هوبكينز الأمريكية إلى تقنية معينة لمحو الذكريات المؤلمة من المخ البشري، وذلك بفتح نافذة على الذكرى المؤلمة، والدخول إلى مراكز الخوف في المخ، وإزالة البروتينات غير المستقرة المسؤولة عن هذه الذكرى. وذلك بواسطة الدواء.
واعترف العلماء أن التوصل إلى دواء تجاري مازال بعيدا، ولكنهم أكدوا إمكانية ذلك، خاصة بعد نجاح الأمر مع الفئران التي أمكن محو ذكرياتها السيئة بواسطة هذه النظرية. جاء هذا الإعلان بعد محاولات سابقة لعلماء إيطاليين وهولنديين للوصول إلى نفس الهدف، وهو محو الذكرى المؤلمة.
وقد حاول علماء سابقون محو الذكريات المؤلمة بالتركيز على العلاج السلوكي، كما يحاول الطب النفسي أن يساعد المريض ينسى الذكرى المؤلمة من خلال جلسات التحليل النفسي، ومن خلال استبدال الذكرى المؤلمة بأخرى سعيدة في العقل الباطن، إلا أن التجارب أثبتت أن الانتكاس كان ممكنا، لأسباب مختلفة.
تلقى كثيرون هذا الخبر العلمي بابتهاج، وجددوا آمالهم في التخلص من ذكرياتهم الحزينة التي تظل دائما تؤرقهم، سواء كانت الذكرى فقد عزيز ، أو حب فاشل، أو ما لاقاه المرء في حرب أو سجن أو تعذيب وغيرها. ولكن السؤال الآن .. ماذا سيكون الأمر لو نجح العلماء بالفعل في هدفهم، وتوصلوا لعقار سحري يمحو الذكريات المؤلمة؟.
سيكون بوسع أي إنسان أن يذهب للطبيب، ويشرح له الذكرى المؤلمة التي يود حذفها، ويتمكن الطبيب بوصفة طبية من تحقيق الحلم، وينسى المريض الذكرى السوداء، ولكن هذا الانجاز العلمي لو حدث سيفجر قضية أخلاقية خطيرة، وهي إمكانية إساءة استخدام هذا الدواء، على سبيل المثال يمكن أن تستخدم جهات معينة هذا العقار لمحو معلومات معينة عن الناس، على سبيل المثال سيمكن للمجرمين إجبار البعض على ارتكاب مختلف الجرائم كالقتل والسرقة والتدمير، ثم يخضعون هؤلاء لذات العقار الماحي للذكرى السيئة، وبذلك يمكنهم من الإفلات من العقاب أولا، ثم تكرار التجربة ثانيا.
سوف يكون بوسع الرجل المزواج أن يدس العقار لزوجته في كوب الحليب لمحو ماعرفته عن خيانة زوجها أو زواجه في السر، سوف يكون للحاكم الطاغية إمكانية أن يقدم العقار لشعبه بعد أن يضعه في محطات تحلية وتكرير المياه التي تصل إلى الصنابير في البيوت، ليمحو بذلك ذكرياتهم المؤلمة التي اختزنوها طوال سنين حكمه المليء بالقمع والبطش والدكتاتورية والاستبداد.
سوف يكون بوسع النظم المستبدة تعذيب الأشخاص، وإذاقتهم كل صنوف العذاب للحصول على معلومات معينة، كما حدث في سجن أبو غريب، ثم حقنهم بالعقار لينسوا جميعا ما مروا به من ويلات، ويخرجوا من السجن مبتسمين كالبلهاء يمتدحون الرعاية والاهتمام وحسن الضيافة التي وجدوها على أيدي الضباط والمخبرين.
ليس ذلك فقط، بل سيمكن ـ عن طريق ذات التقنية ـ محو كل ذكريات الإنسان، مؤلمة أو سعيدة، وتحويل البشر إلى دمى متحركة لا تملك من أمرها شيئا، ويصبح الجنس البشري ألعوبة في أيدي مجموعة من العلماء الموظفين من قوى معينة، ويتحقق بذلك ما تخيله فيلم هوليودي عن إمكانية تحكم قوى شريرة في الجنس البشري.
حتى لو أخذنا الأمر على جانبه الحسن الذي يصوره العلماء، وهو الرغبة في حذف الذكرى المؤلمة التي تظل عالقة بالذهن، وتصيب صاحبها بالألم والأرق والقلق والمعاناة. هل تعتقدون أن محو كل الذكريات المؤلمة، وترك الذكريات السعيدة فقط سيكون في صالح الإنسان، ويحقق له السعادة التي يسعى إليها؟.
الذكرى السعيدة لا تعرف أو تحس إلا بمعرفة نقيضها، وهى الذكرى المؤلمة، ومتع الحياة الكثيرة لا يدرك الشخص طعمها وقيمتها إلا بالإحساس بغيابها، الحرية والصحة والمال والحب والجمال والمذاق الطيب والفراش الوثير والحصول على وظيفة مرموقة .. وغيرها من المزايا لا يشعر المرء بلذتها وقيمتها الحقيقية إلا بتجربة الحرمان منها، حتى لو كانت محدودة، والنجاح السهل المبنى على واسطة لا يقارن أبدا بالنجاح الذي جاء بعد مشقة وتعب وكفاح وسعي.
أحد أسرار جمال الحياة هو تكونها من خير وشر، فقر وغنى، تعب وراحة، نجاح وفشل، فراق ولقاء، وفي التاريخ القديم كان الشاعر العربي لا يبدع الشعر الجميل إلا بفراق المحبوبة، ومعظم الشعراء الذين خلدهم التاريخ حرموا من حبيباتهم، فقدموا التجارب الشعرية الصادقة التي مازلنا نرددها حتى الآن. ولو تزوج كل شاعر حبيبته لانتهى الأمر، ولما وصلنا شيء من كل هذا الشعر الصادق الجميل.
متعة العاشق ليس فقط أن يحب، ولكن في السعي وتحمل المشاق والفناء من أجل المحبوبة، .. ومتعة الأب أن يعمل ويكد من اجل أبنائه، .. التعب في الذاكرة الإنسانية لصيق بالراحة، والعشق رديف للألم، والفراق طريق للقاء. والسعادة الحقيقية تلك التي تأتي بعد كفاح وتعب ومجاهدة ومكابدة.
الألم دافع حقيقي للمقاومة والعمل والنجاح والإصرار على بلوغ الآمال، يقول قانون نيوتن الثالث "لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار، ومضاد له في الاتجاه"، والألم فعل يقابله فعل آخر مضاد له، وهو المقاومة والإصرار على الفرح والراحة والسعادة، ولو انتفى الألم، لانتفى الفعل المضاد، وماتت إرادة الإنسان، وانقطع السعي من أجل السعادة، وتعطلت المهمة الأساسية للإنسان وهي إعمار الأرض، وتحول الناس إلى جثث تمشى بعيون زائغة. كمدمني المخدرات.
محو التجربة المؤلمة سيلغي ميزة مهمة جدا، وهي ميزة التعلم، فالإنسان يتعلم من تجاربه المؤلمة، ولو محونا مثلا تجربة الألم الناتج عن اقتراب اليد من النار، سيكرر الانسان أخطاءه،ويعيد التجربة، ويدخل يده ـ بغباء ـ في النار!.
محو الذكريات المؤلمة سيسلب في الإنسان أجمل ما يميزه، وهو العقل الذي يميزه عن الحيوان، والذي يعرف به الصح والخطأ، الخير والشر، النور والظلام، والقمة والهاوية ، الحرية والقهر، الماء والنار، العدل والظلم، .. ويلغي مجموعة من المشاعر الانسانية، كالحنين والشوق والتعاطف والنجدة والواد والتراحم، ويزرع القسوة في القلوب، سوف نقسو ونقول لك .. خذ دواء النسيان..
محو الذكريات المؤلمة سيفقد الانسان القدرة على التفاعل مع التجربة، ويحول البشر إلى مجموعة من الخراف تنفذ رغبات الراعي، وتتحول بذلك الحياة إلى وردة جميلة، ولكن من زجاج.