يصور البعض الخلاف الدائر الآن بين الدنمارك وعدد من الدول الغربية من ناحية، والعالم الإسلامي من ناحية أخرى بأنه عداء للإسلام وصراع حضاري برزت بداياته بعد أحداث 11 سبتمبر.
ولكن مع وقوفي على الحياد من هذا الإيعاز الذي يطبق نظرية المؤامرة التي أصبحت للأسف جزءا من ثقافتنا العربية، فإننا لا ننكر أن هذا الشعور يتحرك لدى بعض الدوائر التي ترى أن الإسلام هو عدو الغرب، وهذا الاعتقاد ـ مهما غلبنا حسن النية ـ تجسد في تصريحات فلتت من هنا وهناك، أبرزها ما ورد على لسان جورج بوش الإبن عندما شبه الحرب على العراق بالحروب الصليبية، وقيل بعد ذلك أنها "ذلة لسان".
المشكلة الرئيسية برأيي هي اختلاف بين ثقافتين، ثقافة عربية تحمل قيما معينة، وثقافة أخرى تحمل قيما أخرى، إنه خلاف جوهري طبيعي بين ثقافتين مختلفتين من حيث الدين والتاريخ والجغرافية والمشارب واللغة والتربية والبعد الاجتماعي.
الغرب يرى أن حرية التعبير من أهم مكتسباته، ويتشبث بها بأيديه وأسنانه، ولا يضع حدودا لها، وهي ـ رغم مزاياها التي لا ينكرها أحد ـ تعني لديهم أيضا، وهذه أمور ثابتة ـ حرية تناول المخدرات والتعري والشذوذ وممارسة الجنس في الشارع، وهذا مارأيته بنفسي في كوبنهاجن.
مثال محدد: في برنامج وثائقي بثته الفضائيات عن الممثلة الأمريكية إنجلينا جولي ذكر التقرير أنها في فترة المراهقة تعرفت على أول بوي فريند ، فقررت والدتها أن يعيش البوي فريند معهم في المنزل بدلا من أن تقابله في الحدائق ـ كما يقول التقرير.
أما العالم الإسلامي ـ فبرغم افتقاده لبعض مزايا الحرية التي يعرفها الجميع ـ الحرية لديه حرية محددة، فهو يحرم الزنا والعري والاغتياب والتلاعن والتنابذ بالألقاب والتشهير بالأنساب، وغيرها من القيم التي تحكم المجتمع المسلم، والناظر لملامح كل ثقافة سيكتشف بسهولة سبب هذا الصدام الحادث بينهما.
يعزز هذه الرؤية التي لا تنحاز كثيرا لنظرية المؤامرة الواقع الذي يؤكد أن المسلمين ـ في معظم الأحيان ـ يمارسون شعائرهم الدينية بكل حرية في الغرب، ويبنون مساجدهم ، بل ويحصل بعضهم على إعانات مالية تحت مسميات عدة، ولا زال الغرب يفتح أبوابه للمهاجرين والمبتعثين والعلماء من العالم الإسلامي، والدنمارك نفسها تقر مبدأ حرية العقيدة، وفيها مساجد للسنة وأخرى للجماعة الأحمدية القاديانية ! ، حتى الطرق الصوفية لها مقار في كوبنهاجن!، ومنها مقر لإحدى الطرق في حي فودوفغا.
هذا يؤكد أن القضية ليست قضية عداء للإسلام، كما يحب أن يصور البعض، وإنما اختلاف جوهري بين ثقافتين، هذا الاختلاف يجب أن يحل بالحوار والنقاش والتقويم والتصحيح، ومحاولة الفهم المشترك، لا بالانفعال والمظاهرات والاعتداءات والسب المضاد.
الرسوم المسيئة مجرد حالة من الشتيمة، يؤاذرها فهم خاطيء لمفهوم حرية التعبير، وهي نفس الحرية التي غزا من أجلها بوش الإبن العراق وأفغانستان، ثم قال "ضحكت عليكم" .
الغرب يتشدق بحرية التعبير ، بينما أي صبي هناك لو سب أحدهم أمه لاحمر وجهه، وأصبحت أذنه كعرف الديك، ورد الصاع صاعين من قاموس الشتائم الأفرنجية التي أصبحنا نعرف بعضها نتيجة الفضاء المفتوح، ذلك إن لم يوسعه ضربا كما يفعل "فان دام" مع رجال العصابات، وكما نرى في حياتهم الاجتماعية التي نعرفها جيدا من خلال الأفلام والإعلام والمعرفة المباشرة والطبيعة الإنسانية، فما بالك بمن هو أغلى من الأب والأم والولد. محمد عليه الصلاة والسلام.
يقولون أن هذه الرسوم المسيئة تطبيق لحرية الرأي، والحرية براء من هذا الاعتقاد الخاطيء الذي يتاجر باسمه الكثيرون، الحرية لفظة مبهمة لم يتفق العالم بعد على ماهيتها أو حدودها ، ويجب أن يكون لها حدود وضوابط حتى لا تصطدم بأخلاقيات المجتمع وثوابته، ولو تركنا الحرية بدون تحديد ، سنصحو ـ كما يحدث في بعض مدن الغرب وتنقل ذلك وكالات الأنباء ـ لنجد الناس ذكرانا وإناثا يمشون في الشوارع ويقودون الدراجات عراة.
ولنضرب مثلا على ذلك، ففي كوبنهاجن توجد منطقة تسمى "كرستيانيا" يعرض بها الشباب والشابات أنواعا شتى من المخدرات على طاولات، وفي كرستيانيا المخدرات من كل نوع، في شكل يشعرك بأنك في معرض دولي للمخدرات، وعندما سألت عن سبب تجاهل الحكومة لهذا الوضع ، قيل لي أن الحكومة تريد أن تحارب انتشار المخدرات السائلة كالهيروين، والتي تقتل عشرات الشباب الدنماركين، بماذا ..؟، بإباحة أو قل غض النظر عن المخدرات الجافة كالحشيش والمارجوانا وغيرها!!. هذه هي الحرية التي ينادى بها هؤلاء، حرية الرأي والنقد والشتيمة والجنس وتناول المخدرات.
الرسوم المسيئة جرحت المسلمين في شتى دول العالم، لأنها مست عقيدتهم وكيانهم وسيرة رسولهم الذي يفدونه بالمال والولد، وذلك بأسلوب غير شريف، أسلوب يسميه العامة "ضرب تحت الحزام"، وهو الأسلوب الذي يتنافى مع قواعد اللعبة، ويخالف كل الأعراف والقيم، أسلوب يتنافى تماما مع أخلاق الفرسان التي حضت عليها المواثيق وسجل التاريخ قصصا كثيرة لها، فكما أن هناك أدب للحوار هناك أدب للنقد، وأدب للاختلاف، حتى الحرب لها أدبيات وأخلاقيات يعرفها الشرفاء، وانظروا إلى القائد الذي انحني احتراما أمام جثة عدوه، وأخلاقيات التعامل مع الأسير التي أقرها الإسلام.
الرسوم المسيئة ليس لها أي صلة بحرية التعبير أو النقد، هي مجرد سباب وقذف وتجريح، ونزق وغلو وتطرف مجموعة من المسيحيين المتطرفين، تماما كما يشتمك شخص في الشارع ويجري، أما النقد فله وسائله وأدبياته التي علمنا لها الإسلام.
ليس ذلك فحسب، وإنما الغرب نفسه كان أول المعتدين على حرية الرأي، عندما أقرت بعض دوله قانون "معاداة السامية" والذي يطارد ويسجن كل من يدلي برأيه وينكر وجود "الهولوكوست"، ولدينا في المفكر الفرنسي روجيه جارودي مثل.
يجب اعتبار "الرسوم المسيئة" تحرشا حضاريا، تماما كما يتحرش بك أحد رغبة في العراك معك ، بسبب الغيرة والحسد، والتوجس من نجاحك وتألقك، يجب أن نتعامل مع "هذه الرسوم" بذكاء وثقة، وبرود يغيظ الحجر، وندرك حاجة الغرب الماسة إلى التصحيح والتوجيه والحوار والمناصحة حول قيم عدة وأولها حرية التعبير، وأن يعزز ذلك من موقعنا كأصحاب حضارة وقيم أخلاقية حقيقية لم يصل إليها الآخرون بعد.
الرسوم المسيئة لعب بالنار، يرسخ المزيد من الكراهية والتباغض، في وقت ننادى فيه بوحدة العالم، ولكن كما يقول المثل المصري "الضربة التي لا تميتك تقويك"، ولنتذكر أن أعداء الإسلام وشاتميه كانوا دائما على هامش كل عصر وكل زمن، بدءا من عصر الرسول الكريم، وسيظلوا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلينا أن نطمئن، فهؤلاء مهما كثروا وتكاثروا لن يهزوا شيئا من الرسالة الخالدة التي تعهد الله تعالى بحفظها عندما قال (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
يجب أن نفوت على الشاتمين نصرهم الزائف، ورغبتهم في الوقيعة وتأجيج الفتن، وأن نواجه المسؤولية التاريخية والدينية تجاه هؤلاء في الدعوة والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة، والتي يجسدها قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
يجب أن لا نكل أو نمل من توضيح قيم الإسلام العظيمة، وليكن أول الدروس وهو درس "أدب التعامل من منظور الإسلام".