في الماضي كنت أقول أن الديمقراطية تحتاج أحيانا إلى "بعض" الدكتاتورية، "السم" يستخدم أحيانا في العلاج، و"قبطان السفينة" في لحظات الخطر يحتاج إلى إتخاذ قرار سريع .. لا وقت لديه لكي يجمع مجلس إدارة السفينة ليأخذ رأيهم تطبيقا للديمقراطية، ولكنه يأخذ قراره بسرعة.
لذلك أؤيد القرار الوزاري الذي جرم المظاهرات التي تؤدي إلى تعطيل الأعمال، وتدمير الممتلكات العامة أو الخاصة، والذي جاء بعد تفاقم ظاهرة المظاهرات الفئوية التي لا تراعي المرحلة الحرجة التي يمر به الوطن.
لا أحد ينكر حق التظاهر كأسلوب للتعبير عن الرأي. ولكن ممارسة هذا الحق يجب أن لا تؤثر على عجلة الإنتاج، أو تضر الوطن والمواطن. لقد انطلقت ثورة 25 يناير من منطلق هام وهو السلمية، وما حدث من فوضى أو تدمير للممتلكات وقتل للمتظاهرين لم يكن مصدره الثوار، ولكن كانت محاولة من قبل الدولة لإجهاض الثورة.
الأساس في التظاهر أن يكون سلميا، ولكن هذه الممارسة الحضارية نظرا لطبيعتها التي تعتمد على تواجد عدد كبير من الناس في مكان واحد ، يمكن أن توفر بيئة خصبة للمندسين والبلطجية، من مثيري الشغب والفوضى.
ومع تفهمنا لمطالب و"مظالم المصريين"، والعديد من المطالب الفئوية، والتي كانت نتيجة إلى زمن طويل من الظلم الاجتماعي. فإن حق التظاهر لا يعني أن كل من لا يعجبه رئيسه في العمل أن ينزل إلى الشارع، ويحمل لافتة، ويتظاهر مطالبا بإقالته.
نتفهم أيضا القهر الذي تعرض له المصريون لسنوات طويلة تربو على الثلاثين عاما ، وذلك سبب حالة من الفرح والابتهاج، والرغبة في الانفلات من القيود ، والتعبير عن النفس، وقد يصاحب هذه الحالة شيء من النزق والاندفاع، ولكني أعتقد أنه بعد سنوات قليلة ستهدأ الأمور، وستمضي الممارسة الديمقراطية ـ كالنهر ـ في مسارها الطبيعي.
التظاهر حق مكفول في العهد الديمقراطي، ولكن لحماية هذا الحق من الجنوح والاندفاع والاستغلال، يجب أن نستحدث ميثاقا جديدا يتضمن "أدبيات التظاهر"، وفي هذا الاتجاه أقترح تخصيص حديقة واسعة على أطراف القاهرة، تتسع لمليون شخص، تخصص كهايدبارك للمصريين، يمارس الشعب فيها حقه في التظاهر والتعبير عن الرأي ، بحيث تقوم الجهات المختصة بتأمين هذه الحديقة حرصا على سلامة المتظاهرين، وعدم دخول عناصر مندسة تفسد الأمر.
وتتاح في هذه الحديقة للمتظاهرين ممارسة كافة الفنون التي تصب في خانة حرية التعبير عن الرأي، من غناء ورسم وتعبير مسرحي ولوحات تعبيرية. بذلك نحمي الديمقراطية ، ونوفر لها مجالا مناسبا، ويحمي الديمقراطية نفسها من التحول إلى فوضى.
الديمقراطية ممارسة محمودة، ولكن يجب أن لا تجنح إلى الفوضى. الديمقراطية تعني ببساطة أن يعلن كل شخص عن رأيه، وله أن يفعل كل ما يكفل وصول هذا الرأي، ولكن لا يعني ذلك أن يفعل أي شيء. هناك ضوابط مجتمعية يجب أن نتمسك بها. والتقيد بهذه الضوابط لا تعني خرقا للحرية . ولكنها ضوابط لحماية الحرية نفسها.
بين "الديمقراطية و"الفوضى" و"الدكتاتورية" و"الحزم" مسافات بعيدة، ولكن في بعض الأحيان تقل هذه المسافات جدا، لدرجة قد تتحول فيه "الديمقراطية" إلى "فوضى" ، و"الحزم" إلى "دكتاتورية"، من هنا وجب عمل قنوات ومضامير محددة للديمقراطية، حتى لا تجنح إلى الفوضى، كذلك مقاييس للحزم حتى لا يتحول إلى دكتاتورية.
بعض المواطنين يتجنى ويسخر من محاولات حصول الشعوب العربية على الحرية، ويسخر من كلمة "الديمقراطية"، ويتشاءم، ويزعم أن الديمقراطية لا تصلح للشعوب العربية، ويتطرف البعض و"يقل أدبه" ويقول أنها شعوب لا يصلح معها "إلا ضرب الجزمة".
وهذه النظرة المتدنية أرجعها إلى حالة اليأس التي سيطرت على الشعوب العربية بعد عقود طويلة من القمع، قضت هذه العقود على الأمل في أي تغيير، فاقتنع العبد أنه عبد، واقتناع السيد أنه سيد، كالسجين الذي ألف من طول سجنه الظلام، فأصبح غير قادرا على الخروج للضوء.
وصلت الشعوب العربية إلى درجة بالغة من اليأس، كمريض الوهم إلي يحاول الجميع إقناعه بأنه مريض، وأنه ميؤوس من شفائه، فاعتقد المريض أنه بالفعل مريض، فأصيب بالفعل بالمرض والوهن والضعف.
بعض الأنظمة الدكتاتورية، تمارس نفس السلوك الترهيبي من الديمقراطية، ويعزفون نفس النغمة، ويزعمون أن الشعوب العربية شعوب فوضوية لا تستحق الديمقراطية، وذلك لتبرير استمرارهم في الحكم، لأن الديمقراطية تعني تداول السلطة، وتداول السلطة سوف يحولهم من حكام إلى محكومين، وعندما يرى هؤلاء مظاهر الفوضى والمظاهرات الفئوية، يشيرون بشماتة، ويقولون "أنظروا ماذا فعلت الديمقراطية".
الديمقراطية درس تعلمه التلميذ شيئا فشيئا، ومع أن الشعوب العربية مازالت في سنة أولى ديمقراطية، ومع اعترافنا بنسب الأمية العالية في المجتمعات العربية، إلا أنه بعد سنوات من المذاكرة والممارسة، ستجيد الشعوب العربية درس الديمقراطية، بل وتتفوق فيه.
وفي كل الأحوال سواء أكان الشعب تلميذا في الديمقراطية أو أستاذا بها ، حتى تنجح الديمقراطية يجب أن تتسلح بالحزم، لذلك نحتاج في أوقات محددة إلى "الحزم"، تماما كالقبطان إلذي يحتاج في لحظة الخطر إلى اتخاذ قرار سريع لإنقاذ السفينة.