تحية العلم تعبير رمزي عن تقدير المواطن لوطنه، وهو إجراء تقوم به المدارس والمنشآت العسكرية، ويتم أيضا في المناسبات العامة كالمؤتمرات، وفي بعض المناسبات يكتفي برفع العلم وعزف النشيد الوطني للدولة كما يحدث في مباريات كره القدم.
في المدرسة تحية العلم إجراء أساسي في طابور الصباح، حيث يقوم بعض الطلاب الذين يرتدون الزي العسكري باستعراض سريع على إيقاع الطبلة والطرمبيطة، ويصطفون بعد ذلك أمام سارية العلم يتقدمهم أحد الطلاب، ويفك رابط العلم، ويشده ببط حتى يرتفع العلم تحت إيقاع الطبلة المتسارع، ويحلق عاليا على السارية، ثم تبدأ التحية، حيث يرفع كل الطلاب اليد اليمنى لتقترب من الجبهة، ويرددون بشكل جماعي عبارة "تحيا جمهورية مصر العربية" ثلاثة مرات.
كانت تحية العلم في طفولتنا شيئا يبعث على الرهبة، وموقف لله هيبته، وكانت الحركة في طابور الصباح جريمة، إذا فكرت أن تهرش أو حتى تسعل من الممكن أن يتسبب ذلك في إخراجك من الطابور وعقاب على "وش" الصبح.
وتحية العلم إجراء صباحي أراد به مخترعوه أن يعبر عن الانتماء للوطن، وتعظيم قيم المواطنة الصحيحة، ولكن في كثير من الأحيان كان طابور الصباح مجرد إجراء شكلي غير مؤثر، وأحيانا يتجاهل المسؤولون في المدرسة هذا الفاصل، وينظمون طابورا سريعا للصباح، ثم يقولون "كل واحد على فصله"، وفي بعض الدول ثار جدل بيزنطي حول تحية العلم بعد منع بعض المدارس هذه التحية، باعتبارها بدعة لا وجود لها في الإسلام.
وعلى أرض الواقع كانت تحية العلم في كثير من الأحيان، نشاطا شكليا إجباريا ليس شرطا على من يؤديه أن يكون محبا للوطن أو منتميا له، ففي بعض الأوقات أصبحنا نرى من يحيي العلم، ويخون الوطن في الوقت نفسه، يقف بوقار أمام العلم، ويؤدي التحية باهتمام وخشوع، ولكنه في الوقت نفسه يسرق مقدرات الوطن، عن طريق الصفقات الفاسدة، والقروض المريبة، والغش في مواد البناء، ويزور الانتخابات، يقسم بأن يكون وفيا للوطن حريصا على مصالحه، ولكن في الوقت نفسه يكبش من مقدرات هذا الوطن قدر ما يستطيع، ويتآمر عليه وعلى مستقبله.
لم تمنع تحية العلم من وجود جواسيس يبيعون الوطن عند أول ضائقة مالية، أو نواب بدلا من أن يدافعوا عن ممثليهم يتجارون في أجسادهم في مافيا العلاج على نفقة الدولة، لم تمنع "التحية" من وجود خونة للوطن في مواقع عديدة، قد تبدو أفعالهم بسيطة، كالتاجر الجشع الذين يرفع الأسعار ، أو الموظف الذي لا يؤدي مهمته إلا بعد أن يقبض "المعلوم"، أو السيدة التي تلقي القمامة في الشارع، وكلها أفعال تصب في خانة خيانة الوطن.
كان العلم في كثير من الأحيان مجرد قطعة قماش نرفعها على الصارية ، ومعرفا ناجحا للجنسية، وبدلا من أن تغذي تحيته المواطنة وحب الوطن، غذت التعصب المقيت، .. كثير من صور الانحياز للوطن ورفع أعلامه لا تعبر عن انتماء حقيقي للوطن، بقدر ما تعبر عن التعصب. التعصب بمفهومه البسيط هو الانحياز لكيان حتى لو كان هذا الكيان غير جدير بالانحياز، أو أن هذا الكيان يقوم بأعمال خاطئة، ولكنك تنحاز إليه لمجرد ارتباطك به، سواء أكان هذا الارتباط عن طريق المكان أو القربى، أو العلاقة الخاصة.
التعصب يغيب العقل، ويلغي الحق، والموضوعية، والبصيرة، لذلك يتعصب البعض لبلدانهم حتى ولو كانت بلدانهم على خطأ.. التعصب هنا مرض يعمي الشخص عن رؤية الحقيقة ، كالمحب الذي لا يرى عيوب حبيبته، ويتملق بها ويتغزل بجمالها، بينما هي عوراء، وكما يقول المثل "القرد في عين أمه غزال"، لذلك ظهر مصطلح "التعصب الأعمى".
الدليل على ذلك أن بعض من يرفعون أعلام بلادهم في مباريات كرة القدم يمكن أن يتحولوا فجأة إلى مجرمين عند الهزيمة، فينقضون لتحطيم الممتلكات العامة وإثارة الفوضى، وهم لا يعلمون أنهم بذلك يحطمون الوطن الذين كانوا يتعصبون له منذ قليل.
والعلم أي علم له مدلولات معينه من حيث التصميم والألوان، فمثلا العلم المصري تعلمنا صغارا أن اللون الأحمر يرمز إلى والأمل والإشراق والتقدم، ويرمز أيضا إلي دماء الشهداء. والأسود يرمز إلى عصور التخلف والاستبداد والاستعمار، والتي ولت بغير رجعة، لتذكرة الأجيال، والأبيض يرمز للسلام والصفاء والنقاء. بينما الصقر يرمز إلى القوة واليقظة والاستعداد للدفاع عن الوطن في أي وقت، وإن كان الصقر قد تغير بعد معاهدات السلام المصرية الإسرائيلية ليتحول من صقر منفوش الريش، إلى نسر مضمون الجناحين، دلالة على عهد السلام.
قد يعتقد البعض أن تحية العلم هي اعتراف بالنظام السياسي ونظام الحكم، لذلك فإننا نشهد حالات لرفض التحية للعلم، كما حدث العام الماضي عندما توفيت الأميرة فريال، كبرى بنات الملك الراحل فاروق الأول، عندما أصر ذووها أن تلف بعلم مصر أيام الملكية، والذي يتكون من هلال ونجوم ثلاث على أرضية خضراء.
وقد ظهر ذلك أيضا في العراق بعد الغزو الأمريكي، عندما حاول البعض إلغاء العلم العراقي الذي كان معتمدا في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، واقتراح علم آخر، وهو الاقتراح الذي تعثر، وانتهى الأمر إلى استمرار اعتماد العلم العراقي القديم والذي تتصدره عبارة "الله أكبر".
لم تعد تحية العلم توقع نفس الأثر الذي كانت تحدثه في نفوسنا صغارا، في ظل جهل عام بمفهوم المواطنة، ذلك الجهل الذي كان له آثاره، والتي وصلت للأسف إلى ضعف الانتماء، واللامبالاة، وأصبح الرابط بين المواطن والوطن في بعض الأحيان كالحبل الممزق الرفيع.
لا نريد أن نعلم الناس التعصب لأوطانهم، نريدهم أن يحبوا هذه الأوطان، الحب العاقل الحقيقي الذي تكون أول درجاته الصدق، وهو يعني أن يؤيد المواطن وطنه لو كان على حق، ويعارضه إن كان على خطأ، الحب الحقيقي أن تكون صادقا مع المحبوبة، وأن تكون حريصا على أن تكون أجمل وأجمل.
لا نريد أن نزرع في الناس التعصب الأعمى الذي هو مرادف للتملق والنزق والاندفاع والجهل، نريد أن نزرع فيهم معنى المواطنة، وحب الوطن الذي لا يعنى أن نردد جميعا أننا نحب الوطن، ولكن أن نعمل بإيجابية على حماية هذا الوطن، وخدمته بأمانة وصدق وشرف، وأن نشارك في بنائه وتطوره.
وهذا لن يتأتي بمجرد تحية العلم، ولكن يتأتى بالعدل والحرية والديمقراطية والمساواة الاجتماعية، .. الانتماء ليس عقارا يمكن كتابته في وصفة طبية ليصبح المواطن فجأة منتميا، ولكنه نتيجة طبيعية نهائية للحب والعطاء المشترك.
تاريخ الإضافة: 2014-04-14تعليق: 0عدد المشاهدات :1317