هناك فئة من الناس تسرق، ولكنها لا تعرف أنها تسرق، تنصب على الناس، وهي تظن أنها "فهلوة" ، يرتدي الرجل ثوب القاضي في الصباح، وقناع اللصوص في المساء، ويتشدق بأنه طاهر اليد ، لم يرتكب شيئا مما يغضب الله، وعندما يتم القبض عليه، يتعجب ويندهش، ويحوقل أي يقول "لا حول ولا قوة إلا بالله" ، ويحسبن .. أي يقول "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وعندما يسأله أحدهم "ما الذي جاء بك إلى هنا"، يقول أنه ابتلاء من الله، وخلال رحلته من السجن بـ "الترنج الأبيض" إلى النيابة يحمل سبحة في يديه، ويتمم بذكر الله.
في العالم الإسلامي فقط تجد هذه الصورة المتناقضة .. الرجل الذي يصلي كل فرض حاضرا في المسجد، ولكنه في الوقت نفسه يظلم العمالة التي تعمل لديه، ويضاعف أسعار السلع التي يبيعها، ويسرق أموال الناس، ويسيء إلى الجار، ويمارس العنف على أهل بيته، ويعيث في الأرض فسادا.
هذا النموذج منتشر في العالم الإسلامي، والسبب هو التفرقة بين العقيدة والعمل، الإيمان والسلوك، حيث يبرر الكثيرون الخطأ تحت اعتقادات كثيرة، ويفصلون بين العلاقة بين العبد وربه، والعلاقة بينهم وبين الناس، ويقولون بخبث "ساعة لقلبك وساعة لربك".
هذه الفئة موجودة بكثرة في المجتمع، والسبب في وجودها اختلاط الألوان، فالأسود اقترب من الأبيض ، فلم يعد من السهولة تحديد هذا من ذاك، والحلال اقترب من الحرام حتى بات من الصعب التفرقة بينهما .. عن أبي عبد الله النعـمان بن بشير رضي الله عـنهما قـال: سمعـت رسـول الله صلي الله عـليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحـرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعـلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فـقـد استبرأ لديـنه وعـرضه، ومن وقع في الشبهات وقـع في الحرام، كـالراعي يـرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجـسد مضغة إذا صلحـت صلح الجسد كله، وإذا فـسـدت فـسـد الجسـد كـلـه، ألا وهي الـقـلب)، والأمور المشبهات في هذا العصر أصبحت كثيرة.
الحرام توغل ولوث اللبن الأبيض الصافي فأصبح لونه رماديا، ودخل الحرام في الكثير من الأشياء في حياتنا.. في العادات والتقاليد في الزواج والعمل والتجارة، .. حتى في الدين .. الحرام لوث الهواء الذي يحيط بنا ، فأصبحنا نشم الدخان الأسود، ونأكل النار، ونتعامل بما لا يرضي الله .. كل ذلك دون أن ندري.
وحتى لا يؤنبنا الضمير، شرعنا الخطأ، وأطلقنا على "الحرام" مسميات عصرية مختلفة .. فالرشوة أصبحت بقشيشا، وعمولة، والمحاباة تم تبريرها بالمجاملة وخدمة الناس، والعنف الاجتماعي تم تبريره بالقوامة، والضرب تم تفسيره بالرغبة في الإصلاح، وحرمان الأنثى من الميراث تم تحت دعوى الحفاظ على ثروة العائلة من الذهاب إلى غريب، والقتل تم تخريجه بالحفاظ على الشرف.
بذلنا جهدا كبيرا في تزوير الدين، بدهاء، على مراحل، فقمنا بداية بتحويل الفعل "الحرام" إلى "مرفوض"، ثم "مكروه"، ثم وصفناه بـ "النزوة"، حتى أصبح بالتدريج فعلا مقبولا، بل مطلوبا. الشاب الذي نشأ على أن العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج شطارة وشقاوة وحرية شخصية، سينشأ على أن "الزنا" شيء عادي، لقد مارسنا كثيرا من الخداع، والتجمل، حتى صدقنا في النهاية أنفسنا، وكانت النتيجة في النهاية أننا أصبحنا نأكل الحرام ، ونتعامل بالحرام، ولا ندري أن ذلك حرام. لذلك تكون دهشة اللصوص عند القبض عليهم وسماعهم لائحة الاتهام، وصراخ بعضهم ـ بحرقة وربما صدق ـ "مظلوم".
هذا الاختلاط الكبير الذي حدث بين الحلال والحرام في المجتمع جعل من السهل على الناس ممارسة الحرام، ومن تسول له نفسه بالتساؤل أو الشك هناك تخريجات كثيرة، وهذا الاختلاط في المقابل جعل من الصعب على الملتزم أن يتبين طريقه، فإذا كان معظم من حولك من العصاة، من الصعب أن تقنعهم أنك على صواب، من الصعب على الشريف يقنع أغلبية اللصوص بأنهم على خطأ.
والسبب في ذلك غياب القياس، .. عندما تبحر في المياه في قارب ، كيف تعرف موقعك ، لابد من "القياس" بمعنى أن تختار منطقة ما لتحدد مكانها بالنسبة لها .. المشكلة التي يعاني منها هؤلاء عدم وجود القياس، لذلك يبحر المرء منهم دون هدى، وهو يعتقد أنه يبحر في الطريق الصواب، بينما هو يبحر نحو الهاوية.
إذا وصفت شخص بأنه عملاق.. كيف تحدد ذلك؟ .. من المؤكد أن ذلك يتم بالقياس .. بمقارنة حجم هذا الشخص بأقرانه الذين يشبهون الأقزام، وعلى ذلك تحدد أنه الشخص عملاق، أما إذا كان أقرانه كلهم عمالقة، فلن يكون الوصف صحيحا.
لكي تحدد الموقع الجغرافي لبلد يجب أن تنسبه لموقع للد مجاور ، فتقول هذا البلد يقع شمال أو شمال شرق بلد آخر، أو تنسبه لمقياس جغرافي فتقول مثلا "جنوب خط الإستواء". حتى تحدد الشر يجب أن تحدد الخير، وحتى تعرف الظلام يجب أولا أن تكون عارفا بطبيعة الضوء. "القياس" مقوم هام من مقومات الحياة، وأساس أي معرفة.
وقياس المسلم هو القرآن الكريم، وكلما ابتعد عن هذا القياس كلما اختلطت الأمور، ومع ابتعاده أكثر يفقد صلته بمركز التحكم والقياس الذي يمكنه من الحكم على الأمور، فيفقد جاذبية المركز، ويتوه في فضاء خارجي، عندها يكون قياسه بنفسه، ويؤلف شريعته الخاصة، التي تكون مزيجا من الدين والعادات والخرافات، ويعتقد أن ما يفعله هو الصواب.
الكثيرون استسلموا للأمر الواقع، وتوارثوا الخطأ عن طريق العادات والتقاليد، وفي المقابل أدرك البعض طغيان الخطأ في الحياة، وعجزوا عن مقاومة ما أسموه البدع والضلالات، فأرادوا أن ينجو بأنفسهم، فتطرفوا، وتقوقعوا على ذواتهم، وانعزلوا عن الناس، وكفروا المجتمع، ورفضوا وسائل الحياة الحديثة، وهجروا الأعمال الحكومية، وامتهنوا بيع الكتب الدينية والمساويك وعطر العود أمام المساجد.
السفينة حتى تصل إلى الضفاف يجب أن تتسلح بالبوصلة والدعم الملاحي، والطائرة لا يمكن أن تحط آمنة بدون إرشادات مركز المراقبة، والمسلم حتى يعرف طريقه وسط الظلام يجب أن يحمل معه بوصلة الإيمان.