ذكر طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي" في تعريفة للنقد "نقد الدراهم أي أبان حسنها من رديئها"، أي كشف الزائفة منها، وقد كان للنقد الأدبي على مر العصور دور مهم في تطوير المنتوج الأدبي والثقافي، وترك القدماء ثروة من الكتب التي اشتغل أصحابها بالنقد ـ والنقد فقط ـ من هذه الكتب "العمدة"لابن رشيق، و"طبقات الشعراء" لابن المعتز، و"طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي.
لم يكتف النقاد القدامى بـ "نقد الشعر" بل وصل الأمر إلى مرحلة أبعد، وهي وضع المعايير الأدبية التي مازلنا نسير عليها حتى الآن، وصنف بعضهم الشعراء إلى طبقات، فهناك الشاعر والفحل والخنزيز، وهى المرتبة الأعلى، لقد تميز الأدب العربي بعامل "النقد"، الذي ساهم في تطوره وتميزه في معظم العصور.
ولكن رغم ثراء المرجعية النقدية. لم تفرز الساحة الأدبية الحديثة حركة نقدية مواكبة، فالناظر للساحة الأدبية في الخمسين عاما الماضية سيجد أن عدد النقاد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة. وفي العصر الحالي لن نجد من النقاد سوى قلة تمارس النقد الصحفي . إضافة إلى ثلة من النقاد الأكاديميين الذين يمارسون النقد الوظيفي "الأكاديمى" المرتبط بالبحوث الجامعية، وعدد آخر من المؤلفين الذين يمارسون النقد غير الدوري من خلال مؤلفات متباعدة.. معظم النقاد الحاليين لم يتفرغوا للنقد، وكانت جهودهم ـ رغم تميز بعضها ـ لا تخرج عن العمل التطوعي أو الوقت الإضافي.
شهد العصر الحديث غيابا شبه تام للنقد، وانعكس ذلك سلبا على النتاج الأدبي العام. لو كان النقد موجودا في الشعر لما تعرضت رائعة امرؤ القيس "مكر مفر مقبل مدبر معا" إلى التهكم في الإعلانات التجارية، وإذا كان موجودا في الغناء لما سمعنا أغنيات مثل "باحبك ياحمار"، ولو كان موجودا في السينما لما شاهدنا أفلام مثل "كركر" و"الدرملي فقري تملي" .
نحن بحاجة لإحياء "النقد"، .. ليس في المجال الأدبي فقط، ولكن في جميع مجالات الحياة. في الأدب والفن والإعلام والتعليم والصناعة والتجارة والسياسة، والحياة الاجتماعية، فالنقد يمكن أن يقدم الكثير للارتقاء بالمجتمع. نحن بحاجة إلى تحويل النقد إلى "منهج عام" يمارسه الجميع.. حتى في أصغر الوحدات كالمدرسة والبيت والمصنع والمجلس القروي.
علينا أن نخرج النقد من حالة التطوع أو المجاملة أو "أكل العيش" ـ في بعض الأحيان ـ إلى المنهجية والمصداقية والاستمرارية والتأثير، الصحف يجب أن تستعيد وظيفة "الناقد" الذي يشتغل بالنقد فقط، والفضائيات يجب أن تضع في خرائطها برامج متخصصة للنقد، المجتمع عليه أن يتعلم ممارسة النقد الاجتماعي وإبداء الرأي بحرية.
إذا كانت معظم الدول تعتبر "الصحافة" السلطة الرابعة في تسلسل السلطات ، فإن "النقد يجب أن يكون "السلطة الخامسة" التي تمارس دورها في إبانة الجيد من الرديء، والصواب من الخطأ. أي عمل يصنعه البشر يحتاج إلى النقد والتوجيه والتصحيح، والمجتمع السليم هو القادر على تصحيح تجاربه ليصل إلى الهدف.
النقد أحد أهم دعائم تطور الحياة، وغيابه يعني ببساطة غياب "المعايير"، وهذا معناه اختلاط الحابل بالنابل، والجيد بالرديء، والمبدع بالمدّعي، ومياه الشرب بمياه الصرف الصحي.