قررت أستراليا وقف إرسال شحنات من الماشية إلى إندونيسيا استجابة لاحتجاج شعبي حدث بعد أن بثت قناة "إيه.بي.سي" الأسترالية تقريرا عن الحيوانات في 11 مجزرا إندونيسيا وهي تعامل بقسوة، وتتعرض للضرب قبل أن تذبح، وأعلنت السلطات أن ذلك خطوة أولى سيتبعها مراجعة لتجارة صادرات الماشية الحية إلى هذا البلد.
وطالب حزب الخضر بحظر شامل على تصدير الحيوانات الحية لدول الشرق الأوسط بسبب أمثلة متكررة للقسوة في التعامل مع الحيوانات، وانضمت مجموعة "بيتا" التي تتبنى حقوق الحيوان للدعوة بفرض حظر، قائلة إن المعاملة القاسية للحيوانات تعد جريمة.
هذا الخبر من نوعية الأخبار التي "تفرس"، والخبر الواحد منها كفيل بحرق الدم، وفقع المرارة، والطحال، وإصابة القاريء بسكتة دماغية، ففي الوقت الذي يثور فيه الغرب نصرةً لحقوق الحيوان ، لا يهتز للمذابح التي يتعرض لها البشر في مناطق عدة من العالم.
هل ذلك نوع من الانفصام في الشخصية لدى أخواننا الأستراليين، أم أن الانفصام عندنا نحن العرب المنفصلين عن واقع الحياة، ولم نفهم بعد لعبة الأمم، والتي تتلخص في أن تؤمن بالشيء، ونفعل ضده، وأن المواقف مستحضرات تجميل تستخدم عند الحاجة، وأن المحرك الأساسي في أي موقف هي المصالح.
كان العرب كالتلميذ الذي لم يفهم الدرس، رغم أنه ألقى على مسامعه مئات المرات لم ندرك حتى الآن الحقيقة، وهي أن هناك بشر سادة، وبشر عبيد، السادة لا يمكن أن يقبل العالم "زعلهم"، ولا يمكن لأحد أن "يدوس لهم على طرف" وفقا للتعبير الشعبي. أما العبيد فهم أبناء الجارية أو "الغسالة" أو الخادمة، لا سعر لهم ولا قيمة.
الخبر في ظاهرة تصرف إيجابي يأتي متوافقا مع قيم غربية فريدة تعلي من قيمة الحيوان، وتحافظ ليس فقط على الحيوان بل تحقق رفاهيته، هذه القيم التي أمرنا بها الإسلام منذ أكثر من 1400 عام، ولكننا للأسف لم نعمل بها، وضعناها على الرف، وتصورنا أن الإسلام مجموعة من الحركات يؤديها المسلم في الصلاة، بينما الإسلام الحقيقي هو دين المعاملة.
ولكن في باطن الخبر كم من المواقف المتناقضة ، ففي الوقت الذي ينحاز الغرب لحقوق الحيوان، يعتدي في الوقت ذاته على حقوق الإنسان.
في الدنمارك دخلت محلا مخصصا لمستلزمات الحيوانات الأليفة، فهالني ما وجدت به من أدوات وألعاب .. لمن..؟، للحيوانات. لقد حقق الغرب رفاهية الحيوان، بينما نحن في العالم العربي لم نمنح الإنسان حتى حقوقه الأساسية.
حقق الغرب رفاهية الحيوان، بينما مازال الإنسان في الكثير من البلدان العربية محروم من الغذاء والكساء والصحة، والحياة الكريمة، إضافة لحقوق أخرى أساسية ، ولكنها تدخل في دائرة الترف والكماليات، وهي الحقوق السياسية، وحرية الرأي والتعبير والمعتقد.
نحن أمة الخرافة، نتشدق بالتعاليم والوصايا والشعارات، وعند العمل يعمل كل منا على هواه، نتمسك بالنصوص، وفي الوقت ذاته نحلق في الخيال، بدءا من اللغة إلى العادات والتقاليد والمعتقدات التي يرقى بعدها إلى مرتبة الأساطير..
ولكن الغرب الرقيق مرهف الحس الذي لم يتحمل مجرد إساءة إلى الحيوان، هو نفسه الغرب الذي يترك الشعب الفلسطيني يعاني كل يوم ويلات العذاب والقتل والتشريد ، إنه نفس التناقض الذي يمارسه العالم يوميا عندما يحكم المباديء في مكان، ولا يحكمها في مكان آخر. يهاجم القاتل في بلد، وفي بلد آخر يجلس معه ليسامره ، ويتغزل به.
إذا تأملت الخبر ستكتشف بسهولة أن الحكاية أساسها التعصب، وان هناك حيوانات سادة، وحيوانات عبيد، فمصدر غضب الاستراليين وموقفهم الذي هو موقف سياسي ، أن "الماشية" أسترالية، بمعنى أوضح وأكثر صراحة "ماشية بنت ناس" ، بنت حسب ونسب، فالدماء الأوروبية النبيلة لا تسري فقط في عروق الشعب الأوروبي، بل تمتد إلى مواشيهم ، ـ ولامؤاخذة ـ كلابهم.
أما الماشية العربية، فتضرب بالعصا منذ عقود، وتحمل فوق طاقتها الحمال، منذ الخليقة، دون أن يعترض أحد، فالضرب بالعصا ثقافة عربية ، والجميع يتعرض للضرب، بدءا من الطفل في المدرسة إلى الزوجة في البيت.
يجب أن نستفيق، وأن ندرك أخيرا الحقيقة المرة، فلا وجود للمساواة في العالم ، والمباديء العامة لحقوق الإنسان حبر على ورق، والقيم شعارات كاذبة مهمتها التضليل والخداع، والتمييز قانون غير مكتوب يمارس يوميا، يتم من خلاله ـ للأسف الشديد ـ التفرقة بين العربي والأوروبي، الأبيض والأسود، الفقير والغني، ابن السيد وابن "الغسَّالة"، والمواشي الأسترالية التي تسري في عروقها دماء النبلاء، والمواشي العربية التي تضرب بالعصا طوال الوقت.