تعلمت منذ صغري المجاهرة بالرأي ، أصرخ كلما أردت الصراخ، أحتج عندما أريد الاحتجاج، تعلمت أن أعلن رأيي مهما كان، إنه الشغب الطفولي الجميل الذي شكل ذواتنا فيما بعد، وكان للأهل بعد ذلك دور في تقويم الرأي وتحويله إلى قنواته الصحيحة، وهذا في رأيي أبجدية التربية الحديثة.
فالطفل يجب أن يعبر عن رغباته بلا قمع أو تهديد، حتى ولو أخطأ، يجب أن يعبر عن نفسه لأن ذلك هو الدرس الأول للحرية، والأساس للشخصية السوية، .. كنت في صغري طفلا مشاغبا، ولكنه الشغب المؤدب الذي لا يتجاوز حدود الاحترام، الشغب الذي يعني إعلان الرأي حتى لو اصطدم بآراء الآخرين.
ومازلت أتذكر عندما كنت في المرحلة الابتدائية طفلا "مفعوصا" وأنا أقف بكل عناد لأناقش من .. ؟ ، ناظرة المدرسة بكل ثقة، وكيف كانت الناظرة تلوح بعصاتها الشهيرة، وتقول "الواد ده يعاندني".
وفي الجامعة وقفت في إحدى المحاضرات أمام أستاذي لأبدي اعتراضي على طريقة تدريس علم النحو، وفي مرة أخرى قمت لأخبر أستاذ مادة العروض بأنه يوزن الأبيات الشعرية خطأ.
فالطفل الذي ينهره أبواه إذا تكلم أو بكى أو أخطأ طفل مقموع نفسيا، وسوف ينتج لنا هذا القمع في المستقبل ـ لاشك ـ شخصية مهتزة غير سوية، تمارس نفس القمع على الآخرين، وهذه ركيزة هامة من ركائز التربية.
ولكن عندما كبرت وخبرت أقاليم الحياة، اكتشفت أن الحرية بمفهومها البسيط البريء الذي تعلمته صغيرا، لا تصلح أن تكون قانونا عاما ، فقانون البراءة لا يصلح في الغابة، .. الغابة التي اختلط فيها الجيد بالرديء، والجاهل بالعارف، والصواب بالخطأ، وانقلب فيها الهرم، فأصبح أهل القيمة في آخر الصف، بينما أصحاب " الفهلوة" في المقدمة.
أنتج لنا الواقع المعاصر بإفرازاته المتعددة قانونا خاصا، أو قل ـ إن شئت الدقة ـ قوانين خاصة، قد تقترب أو تبتعد أو تختلف تماما عن القانون الأساسي الصحيح.
ووقف المثقف في مفترق الطرق لا يدري أين يسير؟، بينما فكرة السير على كل الطرق مستحيلة، لذلك كله بات على الحرية أن يكون لها في المقابل قانونها الخاص، إن إبداء الرأي يجب أن يكون له وقته ومكانه، والمثقف يجب أن يتخير التربة الصالحة لنمو أفكاره، لأنه إذا وضعها في تربة فاسدة لن تنمو أبدا.
الحرية غرس لا يمكن أن ينمو إلا إذا وجد التربة الصالحة للنمو، والرأي إذا أردت أن تعلنه، يجب عليك التأكد أولا أن السامع سيعي ما يقوله، وإذا أردت أن تناقش قضية. يجب أن تكون المجموعة التي ستتناقش معك مؤهلة للنقاش، فإذا اجتمعت مجموعة من الصناع المهرة ليصنعوا سجادة، وبدأوا في العمل ، فإن أحدهم إذا كان جاهلا بالصنعة سيفسد العمل برمته.
الواقع الجديد قد يدفع المثقف أحيانا إلى الإحجام عن البوح، أو ما يمكن أن نسميه "التقية الثقافية"، وذلك بإخفاء المعرفة والتلحف بالجهل اتقاءً للضرر، أو في حالة التيقن من أن الرأي إذا أعلنه لن يجدي، وسيصبح كالغبار الذي تذروه الرياح، قد يدفع الواقع المر المثقف إلى "ربط الحمار في المكان الذي يريده صاحبه"، مادام أصحاب الحمير مصرون على ذلك.
وهذا أبدا ليس ضعفا أو تعاليا، ولكنه حفظ للحدود، وتوفير للجهد، ودرء للسفسطة وتجنب للجعجعة التي لا طائل منها، وفي فرائد الأدب يقولون "ترك الجواب على الجاهل جواب"، ويقولون أيضا "الجهل مطية من ركبها ذل، ومن صحبها ضل"، ويقول الإمام علي كرم الله وجهه "إذا جاءني عالم غلبته، وإذا جاءني جاهل غلبني". وقد وعى الإسلام ذلك، وقدر عدم استطاعتنا في بعض الحالات التغيير بالرأي، يقول الحديث الشريف "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع بلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، فذلك أضعف الإيمان"، والإسلام أيضا هو الذي دعانا إلى الصمت إذا كان ما سنقوله بعيدا عن الخير "فلتقل خيرا أو لتصمت".
لا تبني منزلك في مجرى السيل، ولا تنطح الصخر، ولا تصارع طواحين الهواء، لا تقف بغباء أمام العاصفة، لا تطرح رأيك على جاهل، ولا تناقش هواة الثرثرة، فالرأي كالزرع يحتاج دائما إلى التربة الصالحة.