عندما هاجمت أسماك القرش شاطيء شرم الشيخ، وتسببت في إصابة أربعة سائحين ، ثلاثة من الروس، وأوكراني واحد، إضافة إلى مقتل سائحة ألمانية، خرج بعض الغواصين في مهمة محددة، وهي القبض على السمكة التي ارتكبت الجريمة، وبعد فترة وجيزة أعلن المسؤولون في المدينة نجاح المهمة الصعبة، والتمكن من الإيقاع بالفك المفترس، وقالوا أنهم استدلوا عليه من كسور في الزعانف.
ورغم أن الموقف لا يتحمل الضحك، إلا أن الخبر كان يدعو للابتسام، فربما هي المرة الأولى التي تخرج فيه مهمة للقبض على سمكة، ورغم أن المسؤولين اتخذوا بعد ذلك منحى أفضل من التنسيق والبحث، واستعانوا بفريق من الخبراء لمعرفة المسببات الحقيقية لهذا الهجوم، إلا أن عملية البحث عن السمكة التي تمت في البداية لم تغادر مخيلتي.
ولا أدري ماذا فعل الغواصون بالفعل لتتبع أثر السمكة الجانية، هل توجد تحت الماء بصمات أو آثار يمكن أن تؤدي إلى مكان السمكة العملاقة؟، وما هو المحيط الذي عمل فيه الغواصون، هل عملوا على بعد كيلو أو اثنين من الشاطيء، أم تمكنوا من مسج البحر الأحمر كله جيئة وذهابا حتى تمكنوا من القبض على من اقترفت الجريمة.
وكيف عرف الغواصون أن هذه السمكة بالفعل هي التي نفذت الجريمة، قال قائل أن أداة الجريمة وجدت داخل بطن السمكة وهي جزء من أشلاء الضحية، ولكن كيف تمت عملية القبض، هل قبض على عشرين قرشا مشتبها في البداية، ثم تم اصطيادها جميعا، ومن ثم فحص معدة كل منها.
أسلوب البحث عن السمكة هو نفس الأسلوب الذي نتعامل معه في حل أي مشكلة، هناك دائما تسرع وفوضى ورغبة محمومة في إغلاق الملف حتى قبل أن يفتح، هناك دائما إصرار على حصر المشكلة في حالة فردية، وعدم مناقشة القضية ككل. هناك دائما رغبة في إيجاد كبش فداء "يشيل" القضية، وينتهي الأمر.
الأمر قد يتم ارتجالا، نتيجة للجهل العام بطرق الإدارة، والخطوات العلمية لحل مشكلة، وقد يتم في أحيان أخرى بناء على إصرار وتخطيط، حيث يحتاج البعض إلى حل جاهز يمكن تقديمه للجماهير لإخفاء الفشل، وتهدئة الخواطر، ومنع الاحتجاجات، وإظهار المسؤول بالحزم والمسؤولية والقدرة على حل المشكلة.
وقائع كثيرة تتم فيها تقديم إجابة سريعة ، لا يهم إن كانت هذه الإجابة صحيحة أم لا ؟، المهم هو الظهور أمام أجهزة التلفاز والتبشير بالنصر المؤذر. أما المشكلة الحقيقية فتظل موجودة لم تخدش، ولم يتم التعرض لها، وبالتالي تستمر آثارها المدمرة.
الأمر يشبه الطبيب الذي يعطي المريض حبوبا مسكنة، ولا يتصدى لعلاج المرض الحقيقي، وتكون النتيجة أن المرض يستشري في الجسد حتى تحين لحظة ويصبح فيها العلاج مستحيلا.
العديد من الجرائم التي تمت وأعلنت الأجهزة الشرطية روايتها وقدمت الجناة أمام أجهزة الإعلام، ولكن بعد فترة من الوقت نقض القضاء الحكم، وخرج المتهمون إلى الحرية، الكثير من حالات الفشل الاقتصادي والعسكري لم تحظى بالبحث عن حل حقيقي بقدر ما حظيت بالتبرير العاجل للمشكلة، وهو التبرير الذي قد يرضي المتحدث الرسمي والمسؤولين والمقربين، ولكنه دائما لا يقنع جموع الناس.
يحدث ذلك عند كل مشكلة، حريق في قطار، حريق في متحف، سرقة لوحة نادرة، فشل الاستعانة بشركات أجنبية في النظافة، أزمة رغيف الخبز، والأمر لا يقتصر على المشاكل اليومية ، ولكن في بعض الحيان نتعامل بنفس الأسلوب مع القضايا الكبرى التي تهم كل الوطن.
عند كل هزيمة أو انتكاسة أو فشل، هناك دائما المبرر الفاشل وهو موظف مهراته تتركز في التبرير، تكون وظيفته الأساسية تقديم المبررات ، والخروج لتقديم الحل الجاهز الذي يكشف عن حكمة المسؤول وفراسته وقدرته الوهمية على حل المشكلة، ويقدم الشماعة الجاهزة التي يمكن للجميع أن يعلق عليها المشكلة، وبعد ذلك يناموا مرتاحي الضمير
بنفس منطق البحث عن السمكة نتعامل مع مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حل سريع كالفاست فودز قد يشبع ولكنه يضر على المدى الطويل، حل سريع نضحك به على الناس، يكون هدفه الأساسي مداراة الفشل، بدلا من إظهار الحقيقة. أما المشكلة الحقيقية فلا يتصدى لها أحد. وربما ذلك السبب في تكرار المشاكل، المشكلة هي هي .. تقع وتمر وبعد فترة تتكرر المشكلة نفسها بنفس الوقائع والتفاصيل.
أي عمل وأي أداء حقيقي فاعل يجب أن يمر بمشاكل، والكفاءة الحقيقية تكمن في القدرة على حل المشكلة، وحل المشكلة لا يكون فقط بمعالجة الواقعة الصغيرة التي ظهرت على السطح، ولكن الحل يجب أن يكون للمشكلة ككل القابعة تحت الماء.
ثقافة الاعتراف بالخطأ غير موجودة في العالم العربي، فالمسؤول دائما معصوم ومنزه عن الخطأ، أما المشكلة فهي دائما تنسب إلى المجهول، إلى القدر، الجريمة واضحة، والجاني يديه ملطخة بالدماء، لكن الجريمة تسجل ضد مجهول، لا يوجد في العالم العربي مسؤول يتحمل الخطأ، ويعلن بشجاعة تحمله المسؤولية كاملة، لا يوجد مسؤول عربي يقدم استقالته.
في العالم الغربي عندما يخطيء المسؤول يقدم استقالته بوازع شخصي دون أي ضغط، حيث تنتشر ثقافة الاعتراف بالخطأ، والاعتذار، والقدرة على تحمل النتائج. أما في العالم العربي فإن الاستقالة مستحيلة، والمسؤول الذي يجلس على كرسيه لا ينزل منه إلا لكي يحملوه على نقاله إلى مثواه الأخير .. القبر.
لدينا في تاريخنا العربي نموذج وحيد جميل ونادر للاعتراف بالخطأ، وتحمل النتيجة والمبادرة بالاستقالة، وهو الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذي أعلن عقب هزيمة 1967 بتحمله المسؤولية الكاملة عن الهزيمة، وأعلن بشجاعة عن قراره بالتنحي، وهو القرار الذي ووجه برفض عارم من الجماهير العربية التي خرجت تطالبه بالبقاء.
عندما تقع مشكلة ما ، ينبغي عليك أن تتحلى بالشرف والأمانة، والقدرة على الاعتراف بالخطأ، لقد أصبح حل المشكلة في الغرب علما من علوم الإدارة له قواعده وأسسه، ثقافة شخصية ومهارة يتمتع بها الجميع، لذلك يتقدم الغرب ، أما نحن فنتقدم ولكن للخلف.