كان مشهد منح المعارض الصيني ليوتشياو باو جائزة نوبل للسلام في أوسلو أمس فريدا، فبعد أن منعت السلطات الصينية المعارض الفائز بالجائزة لدفاعه عن حقوق الإنسان في الصين من حضور مراسم تسليم الجائزة، اضطرت إدارة الجائزة إلى تخصيص مقعد شاغر للفائز وضعت عليه ميدالية تذكارية وشهادة الجائزة.
وهذه هي المرة الثانية التي تمنح فيها الجائزة في غياب الفائز، والمرة الثانية أيضا التي تثير "نوبل" حفيظة الصين بعد منحها عام 1989م للدلاي لاما.
ولفوز المعارض الصيني بجائزة نوبل للسلام أكثر من مدلول، الدلالة الأولى تتركز في أن الفائز مجرد معارض مسجون على يد نظام دولة لا يستهان بها في النظام العالمي الجديد، وهي الصين.
عندما تمنح جائزة دولية بحجم نوبل إلى معارض، فإن ذلك يعني الاعتراف العالمي بالمعارضة كجزء من العمل السياسي الصحي، ليس ذلك فقط، ولكن تعطي الجائزة دفعة كبيرة للعمل المعارض في العالم، فالسلطة ليست القاعدة الأساس، ولكن المناخ الديموقراطي للحكم أي حكم ينبغي على أن يبنى على الحكومة والمعارضة.
في كثير من دول العالم تختفي المعارضة، وتعزف السلطة لحن الديكتاتورية الواحد، تقوم بدور الممثل والمتفرج في آن واحد، تتقافز السلطة وحدها داخل حلبة الملاكمة، وتضرب الضربات في الهواء، تعلب دور اللاعب والخصم، والجمهور، والحكم الذي يعلن دائما الفوز الكاذب.
وفي دول أخرى توجد معارضة، ولكنها معارضة شكلية ضعيفة، يقتصر دورها على دور المحلل للنظام، وظيفته الأساسية أن يكون مضروبا دائما، كالكومبارس الذي يمثل في الأفلام، وتكون وظيفته تلقي اللكمات بدلا من النجم الوسيم المدلل، يدخل الحلبة مع السلطة بين هتاف الجماهير، وتنتهي المباراة بفائز وهمي ومهزوم محمول على نقالة.
هناك جهل كبير في العالم العربي بدور المعارضة، البعض يعتبر المعارضة نوعا من التمرد أو الخيانة، وأنها تعمل دائما ضد مصلحة المجتمع، العبارة ملتبسة دائما، ففي بعض الدول لا وجود لها نهائيا، وفي دول أخرى المعارضة كلمة سيئة السمعة، قد تعني شرذمة من الناس تهاجم الدولة.
وغالبا ما ينتشر هذا المفهوم في الدول التي تسيطر عليها أنظمة شمولية ديكتاتورية، تحتكر السلطة، وتكون علاقة السلطة علاقة بين حاكم ومحكوم، فالحاكم حاكم على طول الخط، والمحكوم محكوم إلى الأبد.
ولكن في الأنظمة الديموقراطية توجد المعارضة، ليست كديكور أو شكل، ولكنها جزء لا غنى عنه في النظام السياسي، ليس ذلك فقط، ولكن المعارضة قد تتحول وتحكم وتشكل الحكومة، والحكومة في المقابل قد تخسر، وتنتقل إلى معسكر المعارضة، لذلك فإن تعبير المعارضة حركة إيجابية تؤكد على المناخ السياسي الصحي المتفاعل، فالجميع حكومة، والجميع معارضة.
على سبيل المثال في أميركا حزبان رئيسيان هما الحزب الجمهوري والديموقراطي، فعندما يفوز الحزب الجمهوري في الانتخابات يتولى الحكم، ولكن عندما يخسر الانتخابات في ظل فوز الديموقراطيين، يترك الحكم وينتقل إلى موقع المعارضة. وهكذا دواليك، الفائز أيا كان يحكم، والخاسر أيا كان ينتقل إلى معسكر المعارضة، والكل يعمل من أجل الوطن.
أي أداء يحتاج دائما إلى النقد، ليس في السياسة فقط، ولكن حتى في الأدب والثقافة وعلاقاتنا الاجتماعية البسيطة، والنقد مهنة تهتم بالتصويب والتصحيح وإصلاح الأخطاء، وهذه كلها معان تصب في مصلحة الشيء المنقود، والمعارضة في الأساس نوع من النقد. المعارضة السياسية نوع من الشورى وإبداء الرأي، وهي كلها معان وأدوار تجسد المشاركة، وتصب في النهاية في مصلحة الوطن.
أما الأداء السلطوي المنفرد، فهو مهما تمتع بالحكمة والمهارات، فهو كالأعمى معرض للاصطدام بأول حائط، فالإنسان لا يستطيع أن يرى نفسه، والمعارضة مرآة تعكس للنظام أخطاءه وعيوبه ومثالبه، السلطة المفردة كاليد الواحدة التي لا تستطيع أن تصفق أبدا، والحكم الفردي بيئة خصبة للفساد والظلم، ولكن الحكم الجماعي التعددي يكفل الشفافية والحرية والتصحيح والبناء، وكل ذلك في صالح الشعب والوطن.
في أحد البرامج التلفزيونية وخلال مكالمة هاتفية بين مذيع البرنامج وأحد الوزراء، وبعد أن حاصر المذيع الوزير بأخطاء وزارته، قال الوزير للمذيع "أنت من المعارضة ولا إيه؟"، فما كان من المذيع إلا أن رد قائلا "نعم مع المعارضة"، وإذا كان هذا مفهوم وزير عن المعارضة، فما بالك بموقف العامة من الشعب، .. هناك جهل في العالم العربي بمعنى المعارضة، وعدم وعي بدورها في العمل السياسي.
وينفذ الفائز بنوبل للسلام ليوتشياو باو (55 عاما) حكما بالسجن 11 عاما، قضى منها عاما واحدا، بتهمة محاولة قلب النظام من خلال إعداده لوثيقة وقع عليها عشرات الأكاديميين تطالب بالديموقراطية وحقوق الإنسان.
وبعيدا عن الجلبة التي أحدثتها الصين اعتراضا على منح ليوتشياو، والتي أسفرت عن مقاطعة 20 دولة حفل تسليم الجائزة، بينها روسيا ودول عربية وإسلامية. استجابة لضغوط من الصين، وغبار الاتهامات بتسييس الجائزة ، فلننظر إلى الجريمة التي وصم بها المعارض الصيني ولنحكم.
التهمة الموجهة للمعارض الصيني هي إعداده لوثيقة وقع عليها عدد من الأكاديميين، تطالب الوثيقة بإقرار الديموقراطية في البلاد. هذا كل ما فعله، مجرد وثيقة تقترح إصلاحات سياسية في بلاده ، من شأن هذه الإصلاحات أن تحقق الديموقراطية في البلاد.
لم يقتل المعارض أحدا، مجرد وثيقة تندرج تحت بند حرية الرأي، وهي حق من حقوق الإنسان، ولكن النظام الصيني اعتبر ذلك كما ورد في عريضة الاتهام "مسا بهيبة الدولة"، وأوقف المعارض، وحكم عليه بالسجن 11 عاما.
المدلول الآخر لمنح الجائزة إلى المعارض الصيني هو اختلاط المفاهيم حول الحرية، فهناك التباس واضح بين التعبير عن الرأي والمس بهيبة الدولة، والمشاركة السياسية والجريمة. والمناضل والمجرم، وذلك يحتم مضاعفة الجهد للتوعية والتثقيف السياسي بمفهوم الحرية والديموقراطية والتعددية السياسية، وهي كلها مفاهيم عالمية ليس من الصعب شرحها والعمل بها، ولا علاقة بينها وبين الثقافات الخاصة، والتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب، وهي حجج يتعلل بها البعض.
فوز المعارض ليوتشياو بالجائزة دعم عالمي لمفهوم المعارضة. وإن كان قد فاز سابقا معارضون ومناضلون، إلا أنه يلقي الضوء مجددا على قضية المعارضة والحرية والديموقراطية، ويمنحها زخما جديدا، ويؤكد على حقيقة مهمة، وهي أن السلطة ليست دائما على حق، وأن جناحي النظام العادل الحكومة والمعارضة.