هناك عادة عربية خطيرة هي "نفاق الرئيس"، ـ أي رئيس ـ سواء أكان رئيسا لمدرسة، أو رئيسا لشركة، أو رئيسا لدولة، النفاق هنا قد يكون هدفه إيثار السلامة، واتقاء الشر، والحفاظ على لقمة العيش، تحت شعار "الغاية تبرر الوسيلة".
نفاق الرئيس عادة تنمو وتتكاثر في المجتمعات الاستبدادية التي تكرس سلطة الرئيس والمدير والمسؤول، وتهمش المواطن، وتخلو من الرقابة والمتابعة، في هذه البيئة السلطوية النفعية تنحصر علاقة المرء برئيسه في المصلحة المادية فقط.
في العمل هناك نظام إداري مستبد يعتمد على هرم وظيفي روتيني يتجاهل المبدعين، ويتعامل مع الموظف كجسد، دونما عقل، ويعتبره ترسا في آلة كل وظيفته الدوران، وفي المجتمع تمارس الحكومات التسلط الاجتماعي على المواطن، فتتعامل معه كمستهلك، ومشكلة تبحث عن حل، دونما اعتبار لقدراته ومهاراته، وعلى نطاق الدولة يضغط نظام الحكم المبني على الفرد بيد من حديد على المجتمع، ولا يسمح بالرأي الآخر.
في هذا المجتمع الظالم الذي لا يحتكم إلا للقوة والسلطة والنفوذ، ويتجاهل القانون وأحكامه، لا يجد البعض وسيلة للسلامة سوى النفاق، .. لا يهم أن يؤدي هذا النفاق إلى خسائر مادية، ولا إلى إفلاس المؤسسة، ولا إلى انهيار الدولة على رؤوس أصحابها، المهم هو رضا المدير.
النفس دائما تميل إلى المديح، وتطرب للإطراء، وتاريخنا العربي يتميز بوجود غرض شعري كامل هو المدح، لذلك فلا مفر من مدح المدير الفاشل، والإطراء لنبوغه وعبقريته، ما دام هو قد ارتضى ذلك، بعض الناس لا يقولون للمدير "لا"، فأي تصرف يبدر من المدير هو عين الصواب، وأي قرار، هو القرار الحكيم السليم الذي جاء في الوقت المناسب، وإذا هرش المدير في رأسه، فإنها من تجليات العبقرية، وإذا عطس فلا بد أن يكون أحد حاسديه ـ وحساده كثر ـ يذكرونه بالشر، ولا مانع من أن يفعل الموظف أي شيء لكسب الرضا السامي، ولا مانع لديه من أن يسمي أحد أبنائه على اسم المدير تملقا وتزلفا، وكأن المدير ولي من أولياء الله الصالحين.
ورغم أن "النفاق" تصرف قد يراه البعض بسيطا، ويبرره البعض اجتماعيا بمسميات تجمله وتذوقه، وتقلل من فداحته، مثل المجاملة، أو اللباقة، إلا أن نتائجه غالبا ما تكون كارثية، فالكثير من المؤسسات فشلت، وحققت الخسائر الفادحة، وأغلقت أبوابها بسبب نفاق المدير، والكثير من الأفكار الخلاقة انهارت، وأصبحت في خبر كان بسبب قمع الرأي الآخر، والكثير من الدول انهار اقتصادها وعانى شعبها ورجعت إلى الخلف 50 سنة، وتفجرت فيها المشكلات بسبب نفاق الرئيس.
في المجتمع الاستبدادي الذي لا يؤمن بحرية الرأي يعجز المواطنون عن إبداء آرائهم بحرية، وإذا فكر أحدهم في إعلان رأيه، فقد يكلفه ذلك غضب المدير، وفي مراحل متقدمه قد يكلفه وظيفته، وربما حياته، والخطير أن النفاق بدلا من أن يكون حالة طارئة تظهر في ظروف معينة، أصبح حالة سياسية يمتهنها البعض، حيث يوجد كتاب وإعلاميون مهمتهم الأساسية مدح الحاكم، وتبرير قرارات حكومته حتى لو كان خطؤها واضحا وضوح الشمس.
القمع الأسري للأطفال في الصغر من قبل الأبوين، والقهر الاجتماعي الذي يجدونه عند الكبر في المجتمع بعاداته وتقاليده البالية الظالمة، والبطش السياسي الذي يعانونه طوال العمر أنتج لنا جيلا كاملا لا يعرف حرية الرأي، ولا يعترف بها، حتى إن إبداء الرأي جريمة يعاقب عليها المجتمع.
وفي العالم العربي يتطور النفاق، كأنفلونزا الخنازير، وتظهر سلالات جديدة منه، ليصل إلى الفن والأدب والصحافة، حيث ظهرت فئة من الكتاب والمغنين والإعلاميين مستعدة لتدبيج الأغاني والأعمال والموضوعات التي تمجد شخصيات معينة مقابل المال، وتحفل حفلات أعياد ميلاد رجال الأعمال ومناسباتهم بهذه الفئة التي تبيع نفسها مقابل الثمن الرخيص..
ولا ننكر دور البيئة الثقافية في ذلك، حيث كرست الثقافة العربية مبدأ الرأي الواحد، حتى في موروثنا الشعبي هناك تكريس للخوف والقمع والخضوع لسلطة المدير، يقول التعبير الشعبي "اربط الحمار مطرح ما يعوزه صاحبه"، وهذا يعني أن تنفذ ما يطلبه المدير حتى ولو كان ذلك يتعارض مع مصلحة العمل.
ويبرع الموروث الشعبي في التعبير عن هذه الظاهرة فيصفها بـ "مسح الجوخ"، والجوخ نوع من الصوف يلبس في الشتاءِ، وهو تعبير يعني التزلف والتملق من أجل مصلحة معينة، وإن كان الواقع في الحقيقة قد تجاوز هذا التعبير، فأصبح لدينا "مسح الأحذية" "الحلاقة" و"الغناء الأوبرالي"، وحمل حذاء المدير وبشته وتدليل أطفاله، واختراع النكت لكي نضفي على سعادته البهجة والسرور، وأحيانا الانفجار بالضحك على نكتة خائبة ألقاها المدير، حتى لا نكسر خاطره، ويتطرف الموروث الشعبي أحيانا، ليكرس النفاق والمجاملة والفساد، عندما يقول "أعط العيش لخبازه ، حتى لو أكل نصه".
وإذا كان الطرف الأول في مشكلة النفاق العويصة هذه هو الموظف أو المواطن، فإن الطرف الآخر هو المسؤول نفسه الذي يرضى بهذا النوع من النفاق، ويكافئ صاحبه، ويمرر له المنح والمزايا، لذلك فإن المسؤول شريك أساسي في المشكلة، هما إذن وجهان لعملة واحدة، وشريكان في تدمير العمل.
السفينة تغرق، ولكن الموظفين الأغبياء مستمرون في نفاق القبطان، ويؤكدون له أن "كل شيء تمام"، .. السفينة تميل أكثر وأكثر، والموظفون مستمرون في دورهم، ويؤكدون أن المشكلة بسيطة، و"كل شي تمام"، .. السفينة نزلت بكاملها تحت سطح الماء، والموظفون يقاومون الغرق، ويبلبطون في الماء، ويقولون للمدير الذي يحاول إنقاذ نفسه "كل شي تمام"..!