الجمعة التي شهدها ميدان التحرير أمس والتي دعت إليها التيارات الإسلامية تحت شعار "جمعة الإرادة الشعبية والاستقرار وتوحيد الصف" كانت مختلفة كليا عن الجمع السابقة، فقد سيطرت الشعارات الإسلامية على المشهد تماما هذه الجمعة، وتراجعت الشعارات السياسية العامة التي تصدرت المشهد السياسي في الميدان في الجمع السابقة، والتي بدأت في 25 يناير، ولم تتوقف حتى بعد تنحي الرئيس السابق محمد حسني مبارك في 11 فبراير، والتي كانت كلها تدور حول مطالب ثورية مثل الدعوة للقصاص، وتغيير وزراء، وتطهير الداخلية والمحافظات والجامعات والإعلام والقضاء من فلول الحزب الوطني المنحل، وتسريع محاكمات قتلة الشهداء والرئيس المخلوع ورجاله.
تركزت شعارات هذه الجمعة ـ التي أمل المتابعون من الجماعات الإسلامية أن تكون الأخيرة لينصرف بعدها الجميع إلى الإنتاج على هوية مصر الإسلامية، حيث حاولت معظم الشعارات والفعاليات والهتافات التأكيد على هوية مصر الإسلامية، في خطوة أراد القائمون بها أن تأتي ردا على التيارات الليبرالية، التي ينادي بعضها بفصل الدين عن السياسة، ومطالبة بعضهم بوضع مبادئ عامة للدستور، وهو ما يجد فيه الإسلاميون وسيلة للالتفات على الاستفتاء الذي تم منذ أشهر حول التعديلات الدستورية والذي شهد إقبالا وتأييد 72% من الناخبين، كما وجد الإسلاميون فيه محاولة ثانية لمس المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن "الإسلام هو دين الدولة، والمصدر الرئيسي للتشريع".
قدر داعية إسلامي عدد المشاركين في هذه الجمعة بثلاثة ملايين شخص، بينما وصفت بعض وسائل الإعلام العدد المشارك بـ"الآلاف"، ولكن الواقع يؤكد أن المشاركين في هذه الجمعة كانوا أكثر من الجمع السابقة.
ومع مطلع صباح أمس ازدحمت محطات المترو بالعاصمة خاصة محطة السادات "محطة التحرير" بالمتوجهين إلى ميدان التحرير، وقام عدد من الشباب في مداخل المترو والشوارع المؤدية للميدان ـ كالعادة في مثل هذه الجمع ـ بإيقاف الراغبين في دخول الميدان والاطلاع على وثائقهم الشخصية، وتفتيشهم للتأكد من عدم دخول ممنوعات أو تسرب مندسين لهم أغراض أخرى غير التعبير عن الرأي.
وانتشرت محطة المؤسسة المعروفة شعبيا باسم "شبرا" في مدخل القاهرة بعدد كبير من السيارات الواردة من الأقاليم، التي حملت عشرات من المواطنين الراغبين في المشاركة.
ولكن الإجراءات الأمنية في هذه الجمعة شهدت تراخيا لم نلاحظه في الجمع السابقة، من مظاهر ذلك التساهل في التفتيش، عندما لاحظت أنه تم الاطلاع على هويتي دون التفتيش وخطورة مرور شخص يحمل مسدسا أو بندقية إلى الميدان وما يمكن أن يمثله ذلك على حياة المتواجدين، طلبت من الشاب الذي اطلع على هويتي بالتدقيق في التفتيش، فقال لي "سيماهم في وجوههم"، من مظاهر التراخي الأمني أيضا عدم وجود تفتيش أو مراقبة في مدخل الميدان من ناحية المتحف المصري بدءا من الخامسة مساء.
وكانت الحكومة قد أعلنت منذ أسابيع أن الشرطة لن تتواجد في ميدان التحرير، وأنها ستترك مهمة تأمين الميدان لشباب الثورة، وهو ما نجح فيه الشباب إلى حد كبير، ومرت جميع الجمع بسلام، عدا جمع قليلة شهدت اعتداءات ممن وصفوا بـ"البلطجية" ، وتسببت هذه الاعتداءات في إصابات قليلة.
جمعة اليوم ظهرت وكأنها محاولة إثبات القوة بعدما تصدر بعض الثوار وعدد من الحركات السياسية مثل جماعة 6 أبريل المشهد في الميدان، والمصادمات التي وقعت في العباسية بين ثوار ومجموعة من سكان المنطقة والتي أسفرت عن إصابات، ومطالبة هؤلاء بإعداد أسس جديدة للدستور، ورفض الإخوان المسلمين والسلفيين مبدأ الاعتصامات الحالية، ومطالبتهم بمنح المجلس العسكري والحكومة فرصة لتنفيذ الأهداف، ورفضهم أيضا إعداد أسس حاكمة للدستور، وهو ما فسره بعض الثوار بوجود صفقة بين الإخوان والحكومة أو المجلس العسكري للحصول على بعض المكاسب.
الشكل العام للميدان كان إسلاميا، ظهر ذلك من طبيعة المتواجدين الذين غلب عليهم الإسلاميون الذين يرتدون عادة الجلباب ويطلقون اللحية، إضافة إلى الشعارات التي كانت في غالبها إسلامية. أضف إلى ذلك تميز البعض بالزي الديني الرسمي مثل أعضاء جبهة علماء الأزهر الذين نظموا مسيرة ضمن فعاليات الميدان.
معظم شعارات هذه الجمعة كانت تؤكد على المطالبة بالحكم بالشريعة، وأن الإسلام دين الدولة، ولكنها كانت ـ رغم أنها كانت تمثل طيفا سياسيا واحدا ـ شعارات متزنة لم تجنح إلى التطرف، حيث جاءت معظم الشعارات مؤكدة على الاعتزاز بالإسلام، وتعديد مزاياه، وأحقيته في أن يكون هو الحاكم.
لم نلمح في الشعارات الإسلامية سبا لجهة أو تخوينا أو تهديدا لأخرى، بل إن بعض الشعارات الصوتية التي ترددت حاولت طمأنة المسيحيين، مثل هذا الشعار الذي يقول "يا نصراني لا تخاف .. الإسلام عدل وإنصاف".
الشعارات التي ارتفعت في الميدان على لوحات من القماش والكرتون والورق ، وظهرت في أيدي الناس وعلى أعمدة الإنارة والسور المحيط بالميدان، بل على عربات الباعة الجائلين، وكانت كالآتي" "أنا سلفي وبحب بلادي"، و"السلفيون لا يتلونون وللحق هم ثائرون"، و"لا أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله"، و"لا إله إلا الله محمد رسول الله"، و" لا إله إلا الله محمد رسول الله .. مصر إسلامية"، و"أنا نازل الجمعة 29/7 من أجل هوية مصر الإسلامية .. تطهير .. استقرار"، و"أهلينا انضموا لينا .. للميدان ننصر نبينا"، و"الحكم لله وحده .. قال تعالى .. إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه .. سورة يوسف"، و"الأمن والاستقرار في إقامة شرع الله"، و"إسلامنا قبل طعامنا"، و"الهوية والإرادة الشعبية .. الشريعة الإسلامية هي الحاكمة للدستور ، الشريعة الإسلامية هي ضمان للحقوق والواجبات ، الشريعة الإسلامية مطلب جماهيري لا للالتفاف عليه"، و"أطيعوا الله ورسوله .. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين"، و"نعم للشريعة الإسلامية"، و"شريعة ربنا جوه قلبنا"، و"لا أميركية ولا صهيونية شريعتنا مية المية"، و"لماذا لا يحكم العالم بالإسلام"، و"لا لإعداء الشعب والوطن الذين يريدون تغيير إرادة الشعب"، و"لا للوصاية على الشعب المصري .. الإخوان المسلمون". "لا لانحياز الإعلام ضد الإسلاميين"، و"مصر إسلامية .. مش هتحلم يا علماني .. إنك ترجع تحكم تاني".
في ذات الوقت تراجعت الشعارات الوطنية الأخرى التي كانت مسيطرة على المشهد في الجمع السابقة والتي كانت تركز على مطالب الثورة، وظهر عدد قليل منها مثل "المجلس العسكري فخر لمصر"، و"لا لزعزعة استقرار مصر"، "يا للظلم ويا للعار راح فين دم الثوار"، و"الديموقراطية معناها إرادة الأغلبية"، و"السلف الصالح هم القلة القليلة التي واجهت الرصاص بصدور عارية"، "لا للفتنة الطائفية لا للعنف نعم للتطهير"، و"مهما اختلفنا كلنا مصريين .. هنكمل ثورتنا ونحميها .. النصر أو الشهادة"، و"لا للمحاكمات العسكرية 8 يوليو"، و"مصر إسلامية"، و"الظلم ظلمات يوم القيامة" و "لا للمبادئ فوق الدستورية"، و"مطالبنا: احترام إرادة الشعب والاستفتاء، سرعة محاكمة رموز النظام الفاسد، استقرار البلاد ودفع عجلة الاقتصاد، تطهير الإعلام والداخلية من رموز الفساد، لا للوصاية على الشعب ولا للمبادئ الحاكمة .. الدعوة السلفية بشبرا"، و"بالقرآن والسنة .. أم الدنيا هتبقى جنة".
شاب حمل لافتة عدد فيها جرائم حسني مبارك جاء فيها "جرائم حسني مبارك: تورطه في اغتيال السادات، تورطه في اغتيال سليمان خاطر، تورطه في اغتيال سعيد بدير، تورطه في اغتيال رفعت المحجوب، تورطه في اغتيال سعاد حسني، تورطه في اغتيال أشرف مروان، القتل العمد لثوار 25 يناير، إفساد الحياة السياسية والاقتصادية في مصر، الطائرة ، القطار، السفينة".
تسببت غلبة الشعارات الإسلامية في الميدان في انسحاب بعض الحركات المعارضة، وقد بدت المنصة الخاصة بحزب الوفد في أحد جوانب الميدان على سبيل المثال خالية تماما، وقد استخدمها المتظاهرون للجلوس والنوم تحتها لاتقاء أشعة الشمس.
وأعلن عدد من الائتلافات والمجموعات السياسية من خلال مؤتمر صحفي عدم المشاركة في فعاليات الجمعة، وتأكيدها على استمرار الاعتصام ومطالب الثوار وعلى رأسها القصاص، وذلك اعتراضا على سيطرة الشعارات الإسلامية، في المقابل قرر عدد من المعتصمين بميدان التحرير تعليق اعتصامهم بدءا من اليوم لترك فرصة للحكومة لتنفيذ المطالب.
واكب مطلب فض الاعتصام بعض اللافتات في الميدان أحدها حملها طفل صغير وتقول "أنا طفل مصري أطالب بفك الاعتصام في شهر رمضان".
شهدت هذه الجمعة ظاهرة جديدة لم نلحظها في الجمع السابقة، وهي توزيع البعض لحبات التمر على المواطنين، وبعضهم وزع عبوات من العصير بالمجان، كما لاحظنا أن مرفق مياه القاهرة خصص عربات كبيرة لتوزيع مياه الشرب النقية على المتظاهرين، بينما تطوع بعضهم لرش المياه بطريقة جماعية على وجوه المتظاهرين لتخفيف وطأة حر القاهرة اللافح في مثل هذا الوقت.
هذه الجمعة وغيرها كانت موسما مهما للباعة الجائلين الذين كانوا منهمكين في تقديم الخدمة للزبائن، ومن هؤلاء الباعة باعة الذرة المشوية، وباعة التمر والدوم والسوبيا، وباعة المياه والمياه الغازية، والكشري والترمس والتين الشوكي والوجبات الخفيفة.
لم تخل هذه الجمعة أيضا من الروح الساخرة التي يتمتع بها المصريون، فشهدنا عددا من اللافتات التي تتضمن رسومات وتعبيرات وأفكارا ساخرة وضاحكة استقطبت أعدادا متزايدة من المشاهدين وملتقطي الصور الفوتوجرافية وكاميرات التلفزة المحلية والعربية.
من هذه اللافتات لافتة مصورة تنشر بعض قصاصات الصحف التي تتحدث عن فضائح رموز النظام السابق تقول "مجلس إدارة شركة مصر لسرقة مصر .. بشرى للحرامية، الحد الأدنى للقبول بسجن القناطر 24 مليون جنيه .. نريد محاكمة من أفسدوا الحركة السياسية، وزوروا الانتخابات، ترزية القوانين، المادة 67 وما شابهها، سيد قراره". لوحة أخرى تجسد رموز النظام السابق، ومن بينهم الرئيس السابق في سجن طرة، وعليها عبارة "والله واتجمعنا تاني يا قمر".
لافتة ثالثة كتب عليها الآتي "مرتب الرئيس أوباما بتاع أميركا الرأسمالية 27 ألف دولار مش مصري ، يعني حوالي 162 ألف جنيه مصري ، مرتب رئيس البنك المصري لتنمية الصادرات وعضو أمانة السياسات بالحزب اللاوطني زاد من 36 ألف جنيه قبل الثورة إلى 268 ألف جنيه بعد الثورة، يا ترى ده اللي عاجبك في الثورة المصرية يا أوبا"، ومن اللافتات الطريفة أيضا لافتة كتب عليها "لا لوثيقة الدستور .. الشعب المصري مش طرطور"، خفة الظل تظهر أيضا في هذه اللافتة التي تقول "كليوباترا انتحرت، شجرة الدر ماتت بالقباقيب، محمد علي اتجنن، أحمد فؤاد اتنفى، محمد نجيب اتغدر بيه، عبدالناصر مات مسموم، السادات مات مقتول، مبارك .. جميع ما سبق".
لافتة طريفة لفتت الانتباه تقول "الثوار يفكرون في توجيه مدفع الإفطار هذا العالم إلى شرم الشيخ"، ومقولات منسوبة لبعض الأشخاص مثل منصور العيسوي: لا يوجد لدينا أساسا في الداخلية مدفع إفطار، عمرو حمزاوي: أرفض بشدة ما يسمى بقمر الدين وعلى التيارات الإسلامية أن تكف عن خلط الدين بالقمر، عصام شرف: قررنا إذاعة المحاكمات بعد الإفطار بدل ما الناس تشتم القاضي وتخسر صيامها، القذافي : من صام 30 يوما من رمضان كمن صام رمضان كله".
خلت هذه الجمعة من أي صدامات أو مشاحنات، وهي المصادمات التي توقعها البعض، خاصة بعد ظهور تصريحات صحفية قبلها بأيام لبعض الإسلاميين تتحدث عن اعتزامهم طرد المعتصمين من ميدان التحرير بالقوة، هذه التصريحات التي لطفتها دعوات أخرى للاتفاق على عدم إخلاء الميدان، وعدم الصدام حقنا لدماء الجميع، وبروز شعار في النهاية يتحدث عن عامل إيجابي، وهو وحدة الصف والاستقرار.
ظهرت في الميدان صورتان شخصيتان، واحدة للشيخ كشك الذي يقضي عقوبة الحبس في السجون الأميركية بتهمة التآمر لتنفيذ تفجيرات في أميركا، والأخرى للشيخ وجدي غنيم المقيم خارج مصر، الذي صدرت بحقه في ظل النظام السابق عدة أحكام منعته من العودة إلى البلاد.
رغم القلق وربما الامتعاض الذي ينتاب بعض المتابعين لهذه الجمعة، بدعاوى مختلفة أهمها غلبة صوت واحد للمشهد السياسي، إلا أن هذا القلق سرعان ما يتبدد على أرض الواقع والوقائع، إذا تذكرنا أن جميع الشعارات التي رفعت رغم أنها قد تستفز فصيلا شعارات مشروعة وعادية، لم تتطرف أو تخرج عن المألوف. بل حرصت على التعاون مع الآخر وطمأنته.
أضف إلى ذلك أن إقرار معظم التيارات الإسلامية سابقا بأن تحكيم الشريعة لا يعني في قاموسهم تأسيس دولة دينية، وأن الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية هي الهدف الذي يسعون إليه، وهو الهدف الذي يتلاقى مع هدف أغلبية المصريين.