من يتعرض للقمع صغيرا، سيمارس نفس القمع على الآخرين كبيرا، وكما تدين تدان، ومن زرع حصد، من تنتهك حقوقه في الصغر، سينتهك هو حقوق الناس في الكبر، هذه نظرية نفسية، .. المجرمون والمغتصبون والقتلة واللصوص إذا بحثنا في طفولتهم سنجد أنهم تعرضوا لنفس الجريمة التي يقترفونها الآن، والتعبير الشعبي يقول "الإناء ينضح بما فيه". توصلت دراسة بحثية إلى أن 62 % من المسجونين تحولوا للجريمة بسبب العنف الأسري،.. نحن بأنفسنا الذين نصنع الديكتاتورية، ونقدم للعالم مشاريع طغاة صغار.
ومع التطور الكبير الذي حدث فرضت التقنية حرية تبادل المعلومات، ولكن رغم التطور والتقنية والعلم والتكنولوجيا والابتعاث والثورات التي تقودها الشعوب، مازال هناك من يقف أمام القطار، ومازالت آلة المنع الجهنمية تعمل ليل نهار، تقصقص أجنحة الأفكار، وتغتال الآراء، وتضخم قائمة الممنوعات، .. مازالت هناك مطبوعات تمنع في بعض البلدان، ومازالت مواقع الإنترنت تحجب، ومازالت الكتب تصادر. مازال سدنة الطاغوت يمارسون مهامهم بحماس، ويصادرون الأفكار كما تصادر المخدرات.
والمنع في العالم العربي يتم لدواع مختلفة، ما أنزل الله بها من سلطان، البعض يؤكد أن الأفكار الهدامة يجب أن تمنع، ولكن لا يوجد في الحقيقة نص قرآني يمنع الأفكار. أريد نصا دينيا واحدا يقر منع المعلومات عن الناس.. حتى تلك المخالفة للدين. على العكس الإسلام يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والنقاش والجدال "وجادلهم بالتي هي أحسن".
الإسلام دين يرحب بالآخر، ولا يصادر رأيا أو فكرا، ويناقش أصحاب الأفكار الخاطئة، ويظهر مواطن الخلل بها، ويأخذ بالفكرة الصائبة، وهذا هو الأسلوب الصحيح، وقد قام الإسلام نفسه على الحوار، فلم يقدم رأيا فقط، ولكنه ناقش، واستشهد، وقص العبر، والأمثال، والروايات، والأحاديث ليبرهن على صدق دعوته.
والقرآن الكريم نفسه مثال حي للحوار الذي يعتمد على الحجة والبرهان والمنطق. كان من الممكن أن يفرض الله العقيدة على الناس فرضا. ولكنه تعالى جعل القرآن الكريم ساحة لعرض الآراء، والرد على المشركين، وتقديم البراهين والأدلة على صدق الدعوة الإسلامية، وقال للمشركين "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".
الإسلام دين العقل، استوعب النفس البشرية بكافة أحوالها وأطوارها، ومن أهم أسباب انتشاره أنه خاطب هذا العقل، وناقشه، وقدم المعلومة، والقصة، والرواية التاريخية والموقف، ولجأ في آياته إلى أساليب عدة للإقناع كالوصف، والتشبيه، والاستعارة، والاستشهاد، والمقارنة، لذلك نجحت الدعوة، وأقبل الناس على الإسلام، لقد انتشر الإسلام لأنه دين يخاطب العقل، ولم يغادر "صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا".
منع الفكرة لن يقتلها، ولكنه سيدفع بها إلى المزيد من الانتشار، كقطعة اللهب عندما تمنحها الريح مزيدا من الاشتعال. المنع سيحجبها عن الناس، ولكن لن يلغيها، وعلى العكس سيدفع الناس دفعا لمحاولة الحصول عليها.
منع الأفكار دليل على العجز، فالقائم على المنع لا يملك الحجة والقدرة على الحوار لإثبات صدق دعوته، لذلك يلجأ إلى أسهل الطرق ويمنعها، وهو لا يعلم أنه بذلك يمنحها ـ حتى لو كانت الفكرة خاطئة ـ الخلود.
قد يكون للمنع ـ من وجهة نظر البعض فوائد ـ ولكنها في الحقيقة فوائد وقتية، تماما مثل تأجيل المشكلة، لن يحلها، وبالتدريج تتراكم المشكلات، والمعرفة فوائدها أكثر، لأنها ستكون بمثابة التطعيم الواقي من المرض، المنع سيعلم الأجيال الكذب والمداراة والجهل، والعجز عن التفكير والاختيار، أما المعرفة فستعلم الأجيال الثقة والتفرقة بين الصواب والخطأ، والقدرة على التفكير والمبادرة والفعل.
يجب أن يعاقب مانع المعلومة كما يعاقب النصاب الذي يزيف الأوراق النقدية، وينصب على الناس، لأن منع المعلومة تزييف للحقيقة، وكلتا الجريمتين عملية نصب، ومنع المعلومات جريمة، لأنه تسلط واستغلال واعتداء على حقوق الإنسان وأهمها حقه في المعرفة.
حاجة الإنسان إلى المعلومة تماثل حاجته إلى الماء والهواء، والوقوف أمام هذه الحاجة سيدفع الإنسان إلى العنف، وقد ظهر ذلك جليا في مصر خلال ثورة 25 يناير، عندما قام النظام السابق بحجب الإنترنت، فكانت النتيجة أن نزل الشعب إلى الشارع، حجب الإنترنت كان عاملا أساسيا في نجاح الثورة، فعندما منع النظام الشعب من التعبير بالكيبورد، لم يجد بدا من التعبير بيده، وكان ذلك الشرارة التي أشعلت الثورة.
علموا أولادكم "الحرية" منذ الصغر، أرضعوها لهم مع حليب الأمهات، واجعلوها أول حرف وأول كلمة، اكتبوها على الكراسات، وعلى سبورة الفصل. قدموها في الأناشيد والرحلات المدرسية، حتى نقدم للعالم أجيالا سوية تملأ الأرض عدلا وحرية