أعلن جوليان أسانج مؤسس موقع "ويكيليكس" أن عهد الأسرار انتهى، وأن الحقيقة لا بد أن تنشر وتعرف، وذلك بعد كم الوثائق السرية التي نشرها الموقع، والتي كانت أشبه بمجموعة الزلازل المتتابعة، التي تجاوزت درجاتها مقياس ريختر، والتي غيرت الكثير من الحقائق.
وبترجمة هذا التصريح بلهجتنا، وبالبلدي فإن "السر" لم يعد "في بير" كما كان يزعم التعبير الشعبي، وأن "الحيطان" بالفعل اتضح أن "لها آذان"، وأنه خير لك أن تبتلع السر، كما يبتلع المهربون قطع المخدرات من أن تحمله في جيبك، فيخطفه الجن ويطير.
كشف موقع ويكيليكس بما نشره من وثائق هشاشة عظام النظام العالمي الذي يعتمد على عنصر أساسي وهو الكذب، ويهدف في المقام الأول إلى تحقيق المصالح، حتى ولو تعارضت هذه المصالح مع الأخلاق، كما أظهر الدور الحقيقي للدبلوماسية، حيث يخفي الدبلوماسي وراء الأسموكنج والابتسامات والاستقبالات البروتوكولية، وكلمات المجاملة مخالب نمر جاهز للافتراس.
نشر الموقع مجموعة هائلة من المعلومات، والقيمة التي تمثلها هذه المعلومات ليس لأنها مجرد وقائع، ولكنها وثائق من الصعب التشكيك فيها، ومع تفهمنا أن بعض ما ورد في الوثائق مجرد انطباعات أميركية قد تصح وقد تخطئ، إلا أن أحد الأدلة التي ترجح موثوقية المعلومات أن ما من أحد حتى الآن خرج وزعم كذب هذه الوثائق، فقد قدم الموقع وثائق أصلية مدعمة بالتواريخ، والتواقيع، والأسماء والشهود..، حررت بطريقة عسكرية صارمة، وتدرجت عبر مراحل عدة للتوثيق، مما جعل من الصعب تكذيبها.
ولكن رغم أن الشواهد تشير إلى مصداقية هذه الوثائق، إلا أننا لا يمكن أن نلغي احتمال أن تكون هذه الوثائق قد تم انتقاؤها وتوجيهها لوجهات معينة، والسبب الذي دفعني إلى الشك، هو عدم ذكر إسرائيل في هذه الوثائق، رغم أن المنطقي أن يكون الشأن الإسرائيلي قد طرح في بعض هذا الكم من الوثائق، وإسرائيل السبب الرئيسي في صداع العالم، الوثائق قد تكون سليمة، ولكن احتمال تعرضها للانتقاء والتوجيه وارد.
ألغى ويكيليكس سقف الحرية الذي كان دائما يضغط على رؤوسنا، والخط الأحمر الذي كان يقطع أطراف كل من يتجاوزه، هذا السقف الذي ظل لآلاف السنين سيفا مسلطا على الرقاب، والذي كان له ضحاياه الكثيرون.. هذا السقف الذي كثيرا ما كانت السلطة تخوفنا منه، كما يخوف الأب ابنه بـ "أمنا الغولة".
فضح الموقع هؤلاء الذين ينادون بالديمقراطية، وفي نفس الوقت يقتلونها، ومن ينادون بحقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه يقتلون الأبرياء بدم بارد، كشف أن السياسة في كثير من الأحيان لعبة ليس لها قواعد، كل شيء مسموح بها. المهم أن تقضي على غريمك، وتنهي المهمة.
أسس موقع ويكيليكس واقعا معلوماتيا جديدا يؤكد أنه لا مجال لحجب المعلومة أو احتكارها، في عصر الإنترنت وانفجار المعلومات، والتطور الهائل لوسائل الاتصالات، فمهما مارست الحجب والمنع ستتسلل المعلومة إلى رأسك عبر ذبذبات الصوت، والأشعة فوق البنفسجية، وضوء النهار، والبكتيريا التي ينقلها الهواء.
أصبح المنع مستحيلا في ظل عالم جديد أكثر قربا وفهما وتلاحما، وفي ظل مخترعات تقنية رهيبة تراقبك وترصدك، وكلما اخترع الرقباء طريقة للقمع، اخترعت التقنية عشرات الطرق للاختراق. لن يجدي الاختباء تحت السرير، أو ارتداء قناع واق من المعلومات، ولا سبيل أمامك سوى المواجهة، مواجهة المعلومة بالمعلومة، ومواجهة الفكر بالفكر.
ألغى ويكيليكس مفهوم السرية، ونسف درجاتها الكلاسيكية القديمة مثل "سري"، و"سري جدا"، و"سري للغاية"، ووضع أجهزة الاستخبارات العالمية في ورطة، لأن كل ما تخفيه معرض الآن للنشر، ليس عن طريق جاسوس أو عميل مزدوج، ولكن عن طريق آلة إعلامية جبارة اسمها الإنترنت.
هذه الآلة الشيطانية لن تسرب فقط المعلومة لشخص، أو شخصين أو عشرة، أو لدولة معادية، ولكن ستسربها للعالم كله، وبذلك لن تصبح الفضيحة فضيحة عادية، ولكن ستصبح فضيحة "بجلاجل" وفقا للتعبير الشعبي الطريف.
أسرار ويكيليكس لم تنته بعد، فالقادم أخطر، حتى لو تمكنوا من إغلاق الموقع، واعتقال صاحبه، ستظهر آلاف المواقع التي ستنشر الأسرار، وتصفع العالم على وجهه كل يوم، لأن ثقافة جديدة ولدت وبدأت في الانتشار، ومادامت المعلومة في أيدي شخص، ستأتي لحظة ليطلق هذا الشخص عصفوره الحبيس ليحظى بالمزيد من الزلزلة.
غير ويكيليكس الكثير على صعيد السياسة والتقنية والحرية والمعلومات والعلاقات الدولية، ورغم الأضرار السياسية الواسعة التي أحدثها لمصدر المعلومات وهي أميركا، والإحراج الذي سببه للدول التي وردت أسماؤها في الوثائق، إلا أن هناك ميزة واحدة تحققت، وهي أنها ستجعل العالم المقبل أفضل، وأكثر صدقا وشفافية.
حتى على المستوى الاجتماعي سيغير ما حدث الكثير، سيفكر الظالم أكثر من مرة قبل أن يشرع في ظلمه، وسيفكر السياسي أكثر من مرة قبل أن يتفوه بعبارات غير لائقة، سيتلفت يمنة ويسرة، ويمنع الكلمة من الفلتان من لسانه، لأنه سيدرك أن العيون تراقبه، والآذان تسجل كل شاردة وواردة.
انتهى كما قال أسانج عهد الأسرار، وسيصبح الحل الوحيد أمام من يريد إخفاء فعل معين ألا يفعله أصلا، ليضمن بذلك عدم إفشائه، وإن كان من الممكن أن تقدم التقنية اختراعا في المستقبل يكشف المعلومة، حتى لو كانت مجرد فكرة في الرأس لم تنفذ بعد.
رغم الوقائع المؤلمة التي كشف عنها ويكيليكس "إلا أنه ـ وللحق ـ أيضا منحنا بعض الترفيه عندما أتاح لنا جميعا متابعة أسرار بعض الرؤساء والأوصاف التي كانت المحاضر السرية تطلقها عليهم، والتي كان بعضها كالنكت الدولية، وهي أسرار جعلتنا نضحك لأول مرة بعد سنوات طويلة من البكاء، ولكنه للأسف كان ضحكا غريبا يشبه البكاء، وكما قال المتنبي، "ولكنه ضحكٌ كالبكا".