إعلامية ليبية من طرابلس كتبت لي الرأي الآتي "الثورة الليبية ثورة تمرد واحتلال وطمع. الناتو لم يأت من أجل عيون الشعب، كلهم طامعون، والله كنا نعيش في ألف خير وفي أمان وحرية. القذافي لم يمنع عنا الهواء، اللي يحارب تحت غطاء الناتو ليس بثائر ولا هذه بثورة. الثوار يحاربون ليبيين زيهم، ويطلقون عليهم اسم الأعداء، الإعلام شوه صورة معمر بالكذب وكأنه سفاح، المشكلة أن الأغنياء والمترفين والذين يملكون كل شي في عهد معمر هم من انقلب عليه، والبسطاء هم من يقفون معه أليس هذا غريبا".
نفس الموقف حدث ويحدث في مصر عندما خرجت جماعة "آسفين ياريس" وهم من المؤيدين للرئيس المصري السابق حسني مبارك يحملون صوره أمام أكاديمية الشرطة حيث تجري محاكمته.
كلنا هاجمنا هؤلاء الذين مازالوا يؤيدون مبارك رغم ما ارتكبه من جرائم في حق الشعب المصري، والجرائم الكثيرة التي ارتكبها نظامه، والذي وضع مصر في الثلاجة 30 عاما. وكان بوسعه لو صان الأمانة لقفز بمصر خلال هذه السنوات لتصبح دولة عظمى، كلنا سخرنا من هؤلاء بالكلمة، والكاريكاتير، والنكات، واتهمناهم بأفظع التهم.
وبغض النظر عن قضية الفلول والثورة المضادة وهي حركة طبيعية في كل ثورة، والملايين من المستفيدين من الأنظمة الديكتاتورية، فإن قضية المؤيدين والمعارضين للأنظمة السابقة سواء في ليبيا أو مصر أو تونس أو حتى اليمن والبحرين وغيرها من الدول، فإن المؤيدين والمعارضين للثورات تفجر قضية الديموقراطية التي يبدو أننا لم ندرك معناها بعد.
الديموقراطية تعني أن أقدم رأيي وأدافع عنه، ولكن في الوقت نفسه لا أصادر الرأي الآخر، فكما أن من حقي إعلان رأيي بحرية، من حق الآخرين أن يعلنوا آراءهم بنفس الحرية.
حتى لو كان الرأي الآخر غريبا يتعارض مع الواقع. علينا ألا نصادره، والسبيل الوحيد للتعامل مع الرأي الآخر هو مناقشته، ومحاورته، وتغييره بالحوار .
الديموقراطية قد تستغل من الديكتاتور نفسه للضغط على الرأي العام، وقد حدث هذا في مصر قبيل انهيار النظام عندما دفع النظام أهالي أميني الشرطة المتهمين بقتل خالد سعيد، ليمتطوا حمير التعبير عن الرأي، فخرجوا يحملون اللافتات أمام المحكمة ليواجهوا المطالبين بالقصاص ليعتقد المواطن البسيط أنهم أبرياء.
حدث هذا أيضا في ليبيا عندما خرج معمر القذافي بنفسه في سيارة مكشوفة في مظاهرات مؤيدة له لمواجهة التظاهرات المعارضة. حدث ذلك أيضا في سورية عندما دفع النظام السوري مؤيديه وحتى غير مؤيديه للخروج بالقوة في تظاهرات تشيد بالرئيس. كما حدث أيضا في اليمن عندما يصر الحزب الحاكم على دفع أنصاره في مظاهرات ليردوا على المعارضين.
هناك أيضا ديموقراطية زائفة استخدمها النظام المصري على مدى 30 عاما تمثلت في أحزاب وهيئات حقوقية موجهة هدفها تجميل الصورة .. رغم كل ذلك فإن الديموقراطية الحقيقية تقضي باحترام الرأي الآخر. إذا صادرت هذا الرأي واتهمت صاحبه بالخيانة ستصبح مع الديكتاتور في خندق واحد. فهو أيضا صادر رأيك وخونك على مدى عقود طويلة.
في بعض الأحيان يعلم القاضي أن المتهم هو القاتل، ولكنه لا يملك المستندات الكافية لإدانته، فيضطر إلى الحكم بالبراءة. في كثير من الأوقات نعرف المجرمين الحقيقيين، ولكننا لا نملك أن نعاقبهم بأيدينا. تماما كما يمسك البطل في أفلام هوليوود بالمجرم في النهاية، ويوشك أن يقتله بعد أن يستدعي جرائمه الفظيعة، ولكنه بحكم واجبه الشرطي يسلمه مضطرا إلى العدالة.
أمام الرأي الآخر يجب أن تتمتع بسعة الصدر وضبط النفس، وأن تتعامل معه بالقانون. لا يصح أن نحكم آراءنا الشخصية، ونهجم على اللص وننفذ القانون بأيدينا بقطع يده كما حدث مع اللصين المسكينين اللذين أمسكهما عدد من المواطنين في صفط اللبن بعد الاشتباه بسرقتهما لـ"تك تك" فقطعوا يد أحدهما وقتلوا الآخر، وليكن القانون هو السبيل الوحيد للاقتصاص من هؤلاء.
نقطة أخرى تفجرها حكاية مؤيدي ومعارضي الأنظمة السابقة، وهي التفرقة بين الثورة التي قام بها الشعب بنفسه، والثورة التي قام بها الشعب بمساعدة قوى خارجية. يجب أن نفرق بين الثورة المصرية التي قام بها الشعب المصري بنفسه، وثورة ليبيا التي قام بها حلف التاتو، نفس الأمر حدث في العراق عندما تدخلت أميركا والتحالف الدولي لإزالة نظام صدام حسين، فخرج الشعب من سجن محلي، ودخل إلى سجن عالمي.
مع تقديري لكفاح الشعوب، وأن الغاية واحدة، وهي الحرية، وأن "المضطر يركب الصعب"، و"إيه اللي رماك على المر .. إللي أمرّ منه"، فإن الشعب الذي حرر نفسه بنفسه سيملك حريته، أما الشعب الذي تحرر بقوى خارجية سيحصل على الفرانشايز .. ويعني الحصول على توكيل الحرية، ولكن الحرية لن يحصل عليها أبدا.
ولدينا مثال في العراق الذي حررته القوات الأميركية، وبعد حصول الشعب على حريته ظلت أميركا الحاكم الآمر في البلاد، وكأنما استبدلنا الديكتاتورية المحلية بديكتاتورية أجنبية، وكذلك الوضع في ليبيا التي حررها الناتو، وأول الغيث ظهر عندما أعلن المجلس الانتقالي الليبي بأن فرنسا ستحصل على 30% من النفط الليبي مقابل دعمها لتحرير البلاد.
الرأي الآخر قد يكون غريبا شاذا .. يمشي ضد التيار، وضد المنطق، وضد الطبيعة، يثير الغيظ ، ويرفع ضغط الدم، ولكن ليس من حقي أن أصادره.
كل الطرق لا تؤدي إلى الحرية، فالحرية التي حصل عليها الشعب بلحمه ودمه تختلف عن الحرية المستوردة، .. الحرية الحقيقية كاللبن يمكن أن تتلوث بسهولة.