الصراع على السلطة يبدأ مبكرا، أكثر مما نتصور، يبدأ في فترة الطفولة عندما يتصارع الطفلان على من يستحوذ على لعبة ما، ويبدأ بطريقة عفوية، يتابعها الأبوان بابتسامة، وهما يعتقدان أن الظاهرة طبيعية.
وليت الأمر يقتصر على مناوشات الطفولة ، لكن ما يحدث أن الطفلين يكبران، ومع مرور الزمن تتفاقم المشكلة، لتظهر في المنزل ظاهرة الغيرة بين الأطفال، وعندما يكبر الأطفال، ويصبحون رجالا، فإن فكرة الصراع تصاحبهم، ليس بشكلها العفوي البسيط، ولكن على أشياء أخرى أكبر، كالصراع للاستحواذ على قلب زميلة، أو الصراع على رضا المدير، أو الصراع على المنصب، وعند الزواج يبدأ صراع غريب وطريف على السلطة المنزلية.
وتتعدد أشكال الصراع على السلطة في المجتمع وتتطور، حتى إنها تظهر في أشكال غريبة، كالصراع على المكان في طابور أمام مصلحة حكومية، أو الصراع على رئاسة ناد، أو رئاسة حزب، أو رئاسة قسم في إحدى الكليات، وفي بعض الأحيان تصل إلى أشكال مؤسفة كالتشابك بالأيدي والشتم، وقد يصل الأمر إلى الضرب بالنار، كما حدث في الصراع على رئاسة أحد الأحزاب، لتصل في نهايتها إلى الصراع على الحكم، والذي يأخذ في العالم العربي أبعادا دراماتيكية، ويكون في معظم الأحيان مسألة حياة أو موت.
الصراع على السلطة ـ أي سلطة ـ موجود في العالم العربي، ليس بطريقة عارضة، ولكن بطريقة مؤسسة، والأسباب لا شك كثيرة، أولها الثقافة العربية التي لم تقدم حلولا موضوعية لإشكالية السلطة، ما هي؟ وكيف يتم اختيارها؟ وما هي السلطات الممنوحة لها؟ بل إن "الثقافة" في كثير من الأحيان كانت هي مصدرا لهذا الصراع.
المجتمع العربي تأسس على أساس أبوي عاطفي، فشجرة النسب العربية تبدأ بالجد، ثم الأب، بعد ذلك يتفرع الأبناء، وهكذا لنصل إلى آخر العنقود وهو الحفيد، ومن هنا ظهر صراع من نوع خاص هو الصراع بين الأجيال، وقد يكون هذا التسلسل مقبولا في جانب العائلة التي تنزع إلى التلاحم والتآزر، ويبرز فيها بوضوح مفهوم الأبوية، حتى خارج نطاق العائلة، كأبوية المعلم ورجل الدين وشيخ القبيلة والحاكم، ولكن هذا التسلسل الطبقي الغريب ـ رغم حسن النية فيه ـ كان له ضحاياه.
الثقافة العربية تعتد بأشياء كثيرة كالمال، والحسب، والنسب، والقبيلة، والأديان، والمناطقية، والعشائرية، والمذهبية، والنفوذ، ولا تعتد بالقيمة، الثقافة العربية ثقافة طبقية، لذلك يتكون المجتمع العربي من طبقات أعلاها الأقوى سلطة ونفوذا .. الحاكم، ثم الوزير، ثم المحافظ، ثم رئيس المدينة، ثم العمدة، وينتهي التسلسل بالوحدة الأضعف وهي المواطن.
وعندما نتحدث عن الثقافة يجب أن نفرق بين الثقافة العربية والثقافة الإسلامية، فالثقافة العربية ثقافة غير ديموقراطية، لأن فكرة السلطة لديها كانت دائما فكرة برجوازية محصورة في فئة معينة من الناس، والحكم في غالب الأحيان يتم بالتوارث، فلم يعرف المجتمع العربي فكرة الانتخاب بمفهومها المعاصر، وكانت الشورى شكلا من أشكال استطلاع الرأي، وفيها تتم معرفة رأي الناس في شخصية مختارة سلفا.
عندما ظهر الإسلام في الجزيرة العربية، أنهى العصبية، وساوى بين الناس، وأقر نظاما اجتماعيا جديدا جعل فيه الناس سواسية أمام الله، ورغم تحسن الصورة وتراجع الأدران الإنسانية التي كانت موجودة في المجتمع الجاهلي، ومن بينها التعصب والطبقية والعبودية وغيرها، فإن الثقافة العربية بما تملك من تاريخ لاحق على ظهور الإسلام، وجذور ضاربة في المجتمع العربي كانت في كثير من الأحيان للأسف أقوى من الدين.
الصراع على السلطة موجود في البيوت، والمدارس، والجامعات، والشركات، والمصانع، والحكومات، والهيئات، والدوائر الانتخابية، ومجلس الوزراء والدولة ككل، ففي ظل غياب النظام الاجتماعي العادل الذي يضع كل شخص في المكان الذي يستحقه ستبدأ الفوضى، ويحاول كل شخص أن يحصل على حقه بنفسه. حتى لو استخدم في ذلك السكين.
تمسك الحاكم بالسلطة، ورفضه فكرة تداول الحكم، وبقاء المسؤول في كرسيه أعواما طويلة حتى يصل إلى مرحلة العفن، ويتحول إلى مومياء، والصراعات غير الشريفة على المناصب والكراسي، وغيرها من ممارسات الصراع تؤكد الخلل الاجتماعي القديم، والذي هو في الأساس خلل ثقافي.
الصراع فكرة تتغذى في ظل غياب العدل، فلو وجد العدل لأمن كل مواطن على ماله، وتيقن أنه سيحصل على حقه، ولاختفت فكرة الصراع، الظلم هو وقود الصراع، إذا تفشى سيحاول كل شخص أن يحصل على حقه بنفسه. حتى لو استخدم في ذلك السكين.
بالعدل .. العدل فقط نقضي على جرثومة الصراع، ويشعر الجميع أخيرا بالطمأنينة، ويلقون السكاكين، ويتفرغون للمهمة الأساسية، وهي العمل والإنتاج.