نواكشوط: ندوات.
استضاف اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين ضمن برنامج "شاي الأربعاء" الأسبوعي بالعاصمة نواكشوط؛ الروائي الموريتاني محمد ولد محمد سالم، للاطلاع عن قرب على تجربته في الكتابة الروائية، واستعراض جوانب من قصة كتابته لآخر إصداراته الروائية "فتنة الرَّبَض" الصادرة في بيروت، وذلك بحضور د. الخليل النحوي رئيس اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، رئيس مجلس اللسان العبي، وعدد من الكتّاب والأدباء والإعلاميين وجمهور من متذوقي الأدب.
استهل الدكتور الخليل النحوي الجلسة، بالحديث عن الإسهامات الإعلامية والإبداعية المتميزة لضيف الجلسة والتي تندرج ضمن سلسلة إسهامات وأدوار طالما أدّاها سفراء الثقافة الشنقيطية أينما حلوا وخصوصا في، وولد محمد سالم هو كاتب أصدر مجموعة من الروايات والقصص والأعمال الثقافية الأخرى بقلم سيّال.
وعن رواية "فتنة الرّبض" تساءل "النحوي" عن أساب اختيار الكاتب العودة إلى هذه الحقبة الأندلسية ليعيش أيام فتنة الربض في قرطبة، وينقل لنا وقائع دقيقة طواها كثير من المؤرخين، فيبسطها لنا في بسط أخاذ جذاب آسر بلغة تتنسم عبق التاريخ، لا باعتبار المضمون فقط، بل في اللغة ذاتها التي تضمخت بعطر التراث، أصيلة نقية، معها بوح بسر الانتماء لهذا العصر ليسهل اكتشاف أن كاتبها يكتب من هذا العصر وإن استعار قلما واسماً من هذا التاريخ.
محمد ولد محمد سالم وضمن حديثه عن تجربته في الكتابة الروائية، أشار إلى أنه قرر مبكرا الاتجاه إلى الكتابة السردية في وقت لم تكن فيه القصة رائجة في موريتانيا، ولم تعرف بعد بشكل واسع بين أوساط الطلاب، فكتب في المسرح والقصة القصيرة، واعتبر أن روايته "أشياء من عالم قديم" كانت البداية الفعلية لمسيرته الروائية الحقيقية، حيث وضعته على طريق الاحتراف، فبدأ سلسلة من الروايات، عالجت مختلف التحولات التي شهدا المجتمع الموريتاني على مدار حقبه المختلفة.
وعن روايته "فتنة الرَّبَض" أكد ولد محمد سالم أنه خرج فيها عن موضوع المجتمع الموريتاني الذي كان يركز عليه في رواياته السابقة، فتناول حادثة تاريخية من الأندلس تعرف بـ "موقعة الربض" وهي ثورة قام بها سكان ضواحي قرطبة ضد الأمير الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل، وتتزاحم في الرواية شخصيات تاريخية حقيقية، وشخصيات من صنع خيال المؤلف، لتعطي كلها دلالة كاشفةللواقع الذي كان عليه المجتمع الأندلسي في تلك الحقبة، ويمكن أن تكون أيضا مفيدة في كشف الكثير من جوانب واقع المجتمع العربي الإسلامي اليوم.
وقال الناقد د. محمد الحسن المصطفى: انتهيت من قراءة أولية مشوقة لرواية(فتنة الربض)للكاتب الروائي الكبير محمد ولد محمد سالم صاحب مجموعة من الروايات التي رسمت منحى خاصا في مسار الرواية الموريتانية القصير زمنيا الخصب إنتاجا وإبداعا، منها (أشياء من عالم قديم) و(ذاكرة الرمل) و(دروب عبد البركة )، ورائعته (دحّان).
ويعد محمد ولد محمد سالم أحد أبرز الروائيين من جيل ما بعد تأسيس الكتابة الروائية في موريتانيا، وهو الجيل الذي ترسخت معه تقاليد هذا النوع الأدبي الذي يعتبره باختين النوع الأدبي الأحدث والوحيد الذي لم يبلغ طور الاكتمال، ويعني هذا ان التراكمات الروائية في مختلف أنحاء العالم وعبر السنين معنية بالمساهمة في تشكيل الصورة المستقرة " النهائية" لهذا النوع الأدبي الأبرز خلال المائة سنة الأخيرة .
وتنتمي الرواية الجديدة "فتنة الربض" إلى نمط من الإبداع الروائي النادر، الذي يقفز داخل المراحل التاريخية، ملتقطا لحظة درامية فاصلة يقدمها في ثوب تراثي غرائبي محكم النسج والحبك سردا، ووصفا ، ولغة، عبر حوار فكري وثقافي متعدد الأصوات والدلالات، وتقدم الرواية على مستوى البنية السطحية فتنة الربض في عهد أمير الأندلس الحكم الأول بن هشام الشهير بالحكم الربضي، نسبة إلى المجزرة التى أوقعها بثوار أرباض قرطبة، واشترك فيها كثير من فقهاء الأندلس وتجارها وعمالها ومسحوقيها، وقد نجح هذا الحاكم في صد هذه الهبّة الشعبية التى جاءت ردا على ظلم عماله وأغلبهم من الصقالبة المستجلبين من أوربا وآسيا الوسطى.
والرواية رغم تصويرها لهذه الفترة المضطربة فإنها تنصف الأميرالحكم أيضا في بعض العناصر الإيجابية كتقدير العلماء، واحترام القضاء، والحرص على الدفاع عن الدولة وإن كانت تلح على ما تميز به عماله من إرهاق الناس بالجباية تحت عناوين مختلفة على نحو أثقل كواهل الرعية وأثر على معاشهم وسير حياتهم .
وتزدحم الرواية بالأشخاص امختلفى الرؤى والتوجهات والمرجعيات من علماء وقضاة ووزراء وقواد، وكانت لكل منهم أدواره المهمة في الرواية، و عمال خراج ومحصلين ونخاسين، ومواطنين عاديين وهم الأبطال الخلفيون للرواية وابرزهم بطلها وسارد أحداثها.
والكاتب يوهمنا بذكاء أن مؤلف الرواية مجهول ، ويحاول إيهامنا أن المؤلف البشري المدون اسمه على غلاف الرواية ليس سوى مكتشف النص وناشره أما صاحبها (الحقيقي) فقد طوته الأيام والسنون خلف سجوف الضياع والنسيان،وتلك تقنية سردية ترمي لإقناع القارئ بحيادية المؤلف بل غيابه عن الأحداث ، والحقيقة ان المؤلف (المجهول) ماهو إلا سارد الرواية وناظم أحداثها ، ولكن السارد او الراوي عندما يستخدم ضمير المتكلم يلتبس عند بعض القراء بالمؤلف الواقعي، فكان هذا الإيهام من طرف الكاتب بهذا المؤلف المجهول دالا وطريفا إلى حد كبير .
إن الرواية لاتنتمي للسرود التاريخية التوثيقية، ولا تلك التي تتقمص التاريخ لقراءة الواقع عن نحو سطحي فج، إنها تجربة إبداعية تستكنه لحظة تراثية فارقة، وتتلبّس أقنعة سردية حديثة بالغة التكثيف، ودون مبالغة في الإغراب والتجريب.
وهذا المستوى من ملامسة التراث نادر في التجربة الروائية العربية الطويلة، وإن كانت درة جمال الغيطاني (الزيني بركات)، تمثل أبرز نموذج في الرواية التاريخية ذات البعد العجائبي الفني المكثف ، ولا شك ان هذه الرواية تمثل انعطافة جوهرية في هذا المنحي السردي المتميز.