منذ مطلع بداياتنا الشعرية كنا نعرف "حمار الشعراء" وهو لقب أطلق على بحر "الرَّجَزْ"، لأنه يأتي تاماً ومجزوءاً ومشطوراً ومنهوكاً، وبالتالي، يستطيع كل الشعراء - حتى المبتدئين منهم - ، بسهولة أن ينظموا عليه قصائدهم، ولكن ما لم أكن أعرفه هو "حمار الصحفيين" وهو وصف أطلقه أستاذنا الأديب الكبير نواف يونس على الحوار الصحفي.
والحوار الصحفي عنصر قديم من عناصر العمل الصحفي، وهو مقابلة يقوم بها الصحفي أو مذيع أو مراسل من وسائل الإعلام مع شخصية محددة بهدف الحصول على معلومات عن شخصية أو قضية محددة.
وللحوار الصحفي قواعد ومقومات، بعضها يختصّ بالصحفي الذي يجري المقابلة، الذي يجب أن يكون صحفيًا متمرسًا ملمًا بالموضوع، عالمًا بمقومات الحوار وأساليبه، قادرًا على تفجير القضايا المختلفة، واستنطاق الشخصية التي يحاورها، والحصول على "سبق صحفي"، والآخر قبل الحوار بدراسة الشخصية، والبحث في موضوع المقابلة، والبعض الثالث أثناء إجراء الحوار، بالقدرة على إرتجال الأسئلة الجديدة التي تولد إجابات تهم القاريء.
وكان الحوار فيما مضى يستلزم تحديد موعد مع الشخصية، واصطحاب مصور لالتقاط الصور، والخروج في مهمة صحفية، وقضاء عدة ساعات في المحاورة، وبالتالي العودة للصحيفة، وتجهيز الحوار للنشر الذي يمر بعدة مراحل طباعية، حتى يتصدر الحوار الصحيفة في اليوم التالي.
ولكن الحوار الصحفي سرعان ما تراجع، والسبب الأساسي تطور آليات الحصول على المعلومة، ومن ثمّ سبل طرحها، فكان الضحية الأولى "الخبر" الذي أصبحت مواقع التواصل تنشره بالصوت والصورة والفيديو في نفس اللحظة، بل أن بعض المواقع تنشر الحدث على الهواء مباشرة بـ "البث المباشر"، وهو ما جعل مهمة الصحف الورقية التي تصدر في اليوم التالي في مواكبة الخبر مستحيلة.
الضحية الثانية كانت "وكالات الأنباء" التي كانت إلى عهد قريب المصدر الأساسي للأخبار، ولكن الزمن تدهور بها حتى أصبحت تنشر أخبارًا تذكر فيها صراحةً أن المصدر هو "مواقع التواصل الاجتماعي".
و"الحوار الصحفي" كان في الماضي المصدر الرئيسي للمعلومات، ولكن مع التطور فقد معناه، وجدواه، وأصبح دقّة قديمة، خاصة مع ظهور وتطور وسائل الاتصال الحديثة، وعلى رأسها الإنترنت، وظهور أدوات أسرع لنشر المعلومات عن شخصية ما مثل قنوات "يوتيوب"، والبوست أو التغريدة التي تتيح لأي شخص الحديث عنه نفسه دون مقاطعة.
لقد أطاح الإنترنت ووسائل التواصل، وفي مقدمتها موقع (X)، "تويتر" سابقا، بالعديد من وسائل الإعلام التقليدي مثل الراديو والتلفزيون، والذي تحول ـ بعد أن كان له "شنّة ورنّة" ـ إلى ديكور مع ظهور القنوات الإخبارية والتلفزيونية التي تبث عبر الإنترنت على مدار الساعة.
كما فقد الحوار قيمته بتراجع المهنية الصحفية، والتي أتاحت العمل الصحفي لكل من هبّ ودبّ دون خبرة أو ثقافة أو مهنيّة، وندرة المحرر الصحفي المثقف، فبات الحوار في بعض الأحيان منفذًا للأدعياء والجهلاء لدخول الساحة، حيث يعتقد كثيرون أن الحوار الصحفي مجرد "سين وجيم"، خاصة مع وجود محرر الديسك القادر على أن يحوّل "الفسيخ" إلى "شربات".
إذا أخذت عينة مما ينشر من حوارات في الصحافة العربية ستكتشف أن الجميع يجرون حوارات، الشعراء والروائيون والموظفون والمصححون، والمعلّمون، وسهّلت وسائل التواصل الحديثة حوارات "التيك أواي" التي تتم دون مقابلة أو مواجهة عن طريق الهاتف أو الإيميل.
في هذا الإطار، تظهر ممارسات تدخل في دائرة النصب، ومنها أن يفوّض الفنان المنشغل المحرر بكتابة الأسئلة والأجوبة، وربما يخترع المحرر حديثًا مع شخص لم يقابله أصلًا. وهو ما فعله المؤرخ الفني الراحل عبدالله أحمد عبدالله عندما اخترع حوارا مع الأميرة شويكار ليخرج من مأذق وضعه فيه رئيس التحرير، وفي بعض الأحيان دخل الحوار الصحفي دائرة الإدعاء بظهور لقب غريب وهو "محاور المشاهير".
في نفس الاتجاه، يجمع بعض الصحفيين الحوارات الصحفية التي أعدّوها ويصدرونها في كتب لا تمثل أي قيمة فكرية أو أدبية، تهبط بالكتاب من قيمته الفكرية والإبداعية إلى مستوى العمل الصحفي العادي.
وكان من نتيجة ذلك ظهور بعض المواقف المضحكة، ولعل أشهرها الصحفية التي أوفدتها مجلة "اليوم السابع" عام 2016 لحضور توزيع جوائز الأوسكار في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي المؤتمر الصحفي للمهرجان وجّهت سؤالًا ساذجًا للنجم العالمي ليوناردو دي كابريو، هو : "ماذا عن أول أوسكار لك؟".
لم يفهم دي كابريو السؤال في المرة الأولى، ربما بسبب الإنجليزية الركيكة، وطلب منها تكراره، وعندما فهمه تبين أنه ليس جديرًا بالإجابة، وكانت "الصحفية المبتدئة" موضع للسخرية و"القلش" لوسائل الإعلام العالمية فترة طويلة، وكانت الفضيحة كما يقولون بـ "جلاجل".
مواقف كثيرة لأدعياء حاولوا إجراء أحاديث صحفية وتلفزيونية، وأثاروا الاستياء إما لضحالة الأفكار أو لسذاجة الطرح، أو لتكرار الأسئلة، مثل هذا السؤال التاريخي الذي يثير الغثيان : حدثنا عن بداياتك الأدبية؟.
البعض حاول تطوير الحوار الصحفي مثل مجلة "اليمامة" التي استحدثت شكلًا للحوار السريع يتضمن 50 سؤالًا، وعلى الضيف أن يجب على كل منها بإجابة مختصرة لا تتعدى السطر الواحد، وأستاذنا حمد عبدالله القاضي رئيس تحرير "المجلة العربية" الذي كان يطلق على الحوار "مكاشفة"، ورغم ذلك ازداد الحوار الصحفى غربة، خاصة مع انهيار الصحافة الورقية.
أتذكر صديقي مصمم الأزياء السعودي يحيى البشري الذي يشترط عند طلب أحد المحررين إجراء حديث معه على أن تكون الأسئلة جديدة!، وذلك بعد أن ضاق ذرعًا بأسئلة الصحفيين الساذجة.
يجب وقف "الحوار الصحفي"، قصره على حالات نادرة وهي الحوار مع قمم ثقافية وعلمية تستحق أن تحاور وتناقش، والتشدد في الاختيار سواء الشخصية أو المحاوِّر، وأن نخصص الصفحات التي تهدر عليه لأبواب وزوايا وأدوات صحفية جديدة مبتكرة تواكب الثورة الإعلامية التي حدثت، والتي تقتضي منا تقديم أدوات صحفية جديدة وسريعة وشيقة، تجذب القاريء الرقمي المحاط بترسانة من الملهيات والمغريات.