الأدب رسالة، والقيم هي الركيزة الأساسية لأية رسالة، والعمل الأدبي إبداع وابتكار وكشف يعلي من قيمة الإنسان، ويفتح له نوافذ الوعي والفهم والتنوير، ولتحقيق هذه الأهداف، لابد أن ينطوي على القيم.
هذا لا يتعارض مع البعد الجمالي والنفسي والترفيهي للأدب، لذلك كانت أفضل الأعمال الأدبية تلك التي جمعت بين الجمال والإبداع والقيم .
ولكن البعض يعتقد أن الأدب طائر طليق لا يرتبط بأية قواعد، ويرفض ربط الأدب بالأخلاق، ويستنكف من وضع القيم كمعيار لتقييم الأدب، ويرى أن ذلك نوع من الوصاية أو السلطة على الأدب، ونزع الأخلاق من الأدب يفرغ الأدب من جوهره الحقيقي، كثمرة جوز الهند التي تم تفريغها فأصبحت مجرد قشرة جوفاء.
قد نتوقع هذا الموقف في مجتمعات أخرى لا تكترث بمعيار الأخلاق، ولكن للأسف لدينا في العالم العربي من تأثر بهذه الرؤية، ونذر حياته لترويجها، وتحت ستار حرية الإبداع وجدنا أعمالا أدبية حافلة بالتجاوزات. بل أن هناك فكرة خاطئة تربط بين الإبداع والانفلات.
الإنسان كائن اجتماعي يخضع لمجموعة من النظم مثل القانون والأعراف والتقاليد وقيم المجتمع، والأدب يخضع لنفس النظم، ولا يمكن أن نرفع هذه القواعد، لأن ذلك كفيل بتدمير الإنسان، وتحويل المجتمع إلى غابة.
أي فعل يتضمن معنى مستترا، سواء كان حديثاً بين الجارات، أو حتى شخبطة على الجدران، أو إعلانا تلفزيونيا، فإن أي عمل إبداعي سواء كان قصيدة أو رواية أو لوحة تشكيلية ينطوي على فكرة تؤثر في المتلقي، وتشكل وجدانه ومشاعره، هذا المعنى يختزنه عقله الباطن، ووفقا لنظرية التأثير الاجتماعي، يبرز في وقت ما، ليؤثر في سلوكياته ومواقفه.
قد يكون هذا المعنى ظاهرا جليا، وقد يكون خفيا، لذلك من المهم أن تكون الرسالة التي تصل إلى المتلقي قيّمة، وبالنظر إلى الدور الذي تلعبه المحاكاة في تشكيل الهوية، بدءا من الطفولة، لك أن تتصور حجم التأثير الذي يحدثه الأدب في الشخصية.
بعض الأعمال الأدبية تكون رائعة على المستوى الفني، ولكن إذا دققت بين السطور ستلاحظ الأفكار الخبيثة التي تشبه الثعابين التي تطلق الفحيح، بعض الكتب تصدر في طبعات فاخرة، ولكنها في الحقيقة مجرد فخاخ تبحث عن فريسة.
تقول الأعرابية :
"إذا كانَ الطِّباعُ طباعَ سوءٍ
فلا أدبٌ يُفيدُ ولا أديبُ"
لا نرفض التعبير عن الواقع، الذي يتكون من الخير والشر، لا نرفض أن يستخدم الكاتب أية أدوات لإيصال فكرته، لا نرفض أي أسلوب فني يختاره المبدع في التعبير، وللمخيلة كل الحرية في الإبداع والتحليق، ولكن المهم أن تكون الرسالة قيمة.
البعض يرى أن ربط الأدب والفنون عامة بالأخلاق يحيلها إلى وعظ وإرشاد، معتقدين أن ذلك يعني المباشرة والتقليدية، وأن ذلك يتعارض مع الحرية والتخيل والإبداع، وهذا تجاهل لمفهوم الأدب الذي هو مزيج من الحرية والالتزام، وجهل بلغة الفنون الأدبية التي تتجاوز المباشرة إلى التعبير الأدبي الخلّاق.
يحدث هذا رغم أن الأخلاق جزء لا يتجزأ من هويتنا الدينية والثقافية، قال أمير الشعراء أحمد شوقي :
"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا»
وشوقي أيضا هو القائل :
"وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا"
والغريب أن نرى فزع البعض عندما نقرن الأدب بالأخلاق، بينما نرى في الدول المتحررة دعاوى للعودة إلى الأخلاق، وظهور توجه عالمي لتعزيز السلوك الأخلاقي، مثال اليابان التي أدخلت مادة الأخلاق في المناهج التعليمية.
والأدب منتج يبقى بعد رحيل صاحبه، ويظل يؤثر في الأجيال سلبا أو إيجابا أبد الدهر، لذلك تتعاظم المسئولية فيه، فالكلمة يمكن أن تبني أمة، والكلمة أيضا قادرة على هدمها. قال الشاعر أمين الجندي:
"وما من كاتِبٍ إلا سيفنى
ويبقى الدهرَ ما كتبت يداه
فلا تكتـُب بكفِك غيرَ شيءٍ
يسرُّك في القيامةِ أن تراه"
يجب أن نشدد على ثنائية الأدب والأخلاق، وننبه جميعا إلى مسئولية الكلمة، ومسئولية الكاتب، ونتحدث كثيرا عن ماهية الإبداع، ونؤكد أن الأدب ـ مهما تعددت تعريفاته وأنواعه وأساليبه ـ في النهاية رسالة، وأن القيم مقوم أساسي ليس في الأدب فقط، ولكن في كل الفنون.