عندما وصلت إلى متحف اللوفر في باريس الساعة 11 صباحا، فوجئت بطوابير من الزوار تمتد وتتلوى كأفعوانية عملاقة لا تعرف لها بداية من نهاية، فقلت لنفسي: مستحيل أن أدخل المتحف اليوم، وعندما سألت عرفت أن الدخول بتذاكر ومواعيد، وبذلك تكون أمامي ثلاث عقبات: التذاكر وقيمة الواحدة 17 يورو، والمواعيد فكل زائر له موعد محدد للدخول، والطوابير التي تسدّ عين الشمس.
ذهبت إلى موظفة وقلت لها:"Je suis journaliste أنا صحفي" فأشارت إلى باب جانبي، فذهبت إلى حيث قالت، وأخبرت الشرطي الواقف نفس العبارة: "Je suis journaliste "، فطلب بطاقتي الصحفية، فقدمت له بطاقة عضويتي في نقابة الصحفيين المصريين، فسارع بتقديمها إلى ضابطة أنيقة في الجوار تفقدتها وأشارت بالموافقة، 3 دقائق كنت داخل اللوفر العظيم.
شعرت بمزيج من الدهشة والفخر والإعجاب، وأدركت قيمة الصحفي في الأراضي الفرنسية، هذا الموقف تكرر في أكثر من أربعين متحفًا ومَعْلمًا ثقافيا وحضاريًا في باريس، Je suis journaliste كلمة السر التي فتحت لي أبواب عاصمة الثقافة العالمية، مدينة النور، التي وصفها عميد الأدب العربي طه حسين (1889: 1973) بـ "مدينة الجن والملائكة"، وفتنت رائد التنوير رفاعة الطهطاوي (1801:1873) فقضى خمس سنوات لوضع كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".
لا ينعم الصحفي في باريس فقط بالدخول المجاني، ولكن أيضًا الابتسامة والترحيب، الجميع هنا يدركون قيمة الصحفي، ودوره، وذلك لا شك ينبع من ثقافة الشعب نفسه الذي لازال يقرأ الكتاب الورقي في القطارات والحدائق، ويتحلّق بشغف حول صناديق القراءة المنتشرة في الأماكن العامة.
لذلك لا عجب إذا عرفت أن فرنسا تتصدر، منذ أكثر من 30 عامًا، المرتبة الأولى في تصنيف الوجهات السياحية العالمية، وبلغ عدد السياح الأجانب 90 مليون سائح عام 2019.
الموقف المختلف حدث عندما ذهبت لحضور معرض "رمسيس وذهب الفراعنة RAMSES et l’or des Pharaons" المقام في قاعة "جراند هال دو لا فيليت Grande Halle de la Villette" شمال شرق باريس، عندما أبرزت للمسؤول هويتي الصحفية أخبرني أنه ليس لديه تعليمات بخصوص الصحفيين، فأخبرته وقد ارتفع الحس الوطني لدي "بغض النظر عن الصحافة، أنا مصري، وهذا معرض جدّي رمسيس الثاني، ولا يليق أن أدفع مقابل رؤية آثار بلادي"، وعندما اكتشف أن حجتي قوية، قدم إلي بريدًا ألكترونيًا وطلب مني مخاطبة المديرة المسؤولة واسمها مارين.
أخذت الإيميل، وأنا أنتوي الكتابة مطالبًا بدخول جميع المصريين مثل هذه المتاحف الخارجية مجانًا، فمن العار أن يدفع المصري لرؤية آثار بلاده، وبالفعل أرسلت رسالة إلى السيدة مارين، فردت على الفور برسالة رقيقة، وطلبت مني تحديد اليوم الذي أريد فيه زيارة المعرض حتى تترك اسمى على الباب.
أرسلت لها الجواب، وحدّدت يومين مقترحين، فجاءني الرد بالترحيب والموافقة، وفي اليوم المحدد ذهبت أنا وصديقي العزيز الشاعر والمترجم التونسي علاء الدين السعيدي، ووجدت بالفعل اسمي في قائمة كبار الزوار، ودخلنا، ووجدنا في استقبالنا شابة جزائرية اسمها "أسمهان" اصطحبتنا في جولة بالمعرض، وكانت زيارة لا تنسى.
وفي المكتبة الوطنية الفرنسية كان الترحيب مضاعفًا، فعندما ذكرت رفيقتي في الزيارة الزميلة الجزائرية خديجة رابحي التي تتحدث الفرنسية بطلاقة أنني صحفي مصري، رحب بنا الموظفون، وقدموا لنا شرحًا خاصًا وأتاحوا لنا تجربة جهاز الواقع الافتراضي، وأهدوا لنا تذاكر دخول مجانية. المسؤولة الفرنسية في المكان أخبرتني أن شقيقها اشترى مؤخرًا شقة في مصر.
ليتنا في العالم العربي نقتدي بفرنسا التي قدّرت الصحفي وعظّمت دوره، وفتحت له جميع الأبواب، حتى قصر الإليزيه. لم تقدر فرنسا الصحفي فقط، ولكنها قدّرت المثقف والأديب والمتعلم، صديقي الجزائري الدكتور غسان حجّار الذي يعد الدكتوراة في باريس أكد لي أن أستاذ الجامعة في فرنسا له مكانة وحظوة، والدارس أو طالب العلم مدلّل في جميع الأماكن.
في الوقت الذي يفخر الصحفي بنفسه في الأراضي الفرنسية، ويقول بكل ثقة وزهو "Je suis journaliste" يخفي الصحفيون في بعض الدول هويتهم حتى لا يتعرضون للمشاكل، وفيما يُحتفى بالصحفيين في عاصمة النور، يُقتل العديد منهم في أماكن عدة في العالم لمنعهم من مهمتهم النبيلة ..كشف الحقيقة.
الصحافة صاحبة الجلالة، وصفها نابليون بونابرت (1769: 1821) بأنها "من أعظم الأركان التي تشيد عليها دعائم الحضارة والعمران"، إذا رفعنا من شأنها وعظّمنا دورها نهض المجتمع، وإذا حاصرناها إنتكس، والأمم العظيمه تقاس بحرية الرأي والكتابة.. حرية الصحافة!.