كما توجد كرة مرتدة، هناك رصاصة مرتدة، تلك التي ترفض الهدف، وترتد إلى مطلقها، فتسقطه صريعا في الحال، .. هناك قوة إلهية خارقة تحمي المظلوم، وتقف معه وتؤازره، وتمده بالقوة والعزيمة، وترسل جنودا مجندة تحارب معه حتى النصر، .. هل تذكرون أبرهة الحبشي الذي أراد هدم الكعبة المشرفة، وقاد الفيلة لهدم البناء العظيم ، لقد أرسل الله طيرا أبابيل رمته وجيشه بحجارة من سجيل، فصاروا في لحظات كعصف مأكول.
الظالم يظلم ويقتل ويشرد ويلوح بمسدسه مزهوا ومختالا أمام المظلوم الضعيف الملقى على الأرض، ، قد تكون مع الظالم القوة والسلطة والنفوذ، ولكنه يفتقد إلى العقيدة أو الحجة أو المنطق أو الدافع، أما المظلوم فلا يملك القوة، ولكن لديه الأقوى من القوة، لديه كلمة السر .. الإيمان وإرادة الحياة.
هناك أشياء تموت لتحيا بدلا منها أشياء أخرى، .. كان المصري القديم يلقي فتاة جميلة في النيل طلبا للفيضان، والجنود يقاتلون ويستشهدون لتحيا الأوطان، .. حرق الشاب التونسي محمد البوعزيزي نفسه، فأحيا ثورة عمت ربوع البلاد، مجسدا بذلك نظرية الفداء، عندما يضحي الإنسان بنفسه ليحيا الآخرون.
يخطئ الجلاد عندما يظن أن السياط التي ينهال بها على المسجون تؤذيه، فهذه السياط في الحقيقة تنهال على الجلاد نفسه، وتؤكد جبنه وحقارته، وإن كان لم يشعر بها الآن، فسيشعر بالوجع فيما بعد، يخطئ الجلاد الذي يعذب ضحيته عندما يظن أنه تفوق على الجسد الضعيف، لأن التعذيب دليل قاطع على هزيمته، فالجلاد لم يستطع هزيمة الضحية بالحجة والبرهان والقانون، فأراد أن يهزمه بأخس سلاح وهو التعذيب.
عندما أطلق رجال الشرطة في تونس رصاصاتهم في صدور المتظاهرين المسالمين الذين يطالبون بالحرية، ارتدت الرصاصات إلى مطلقيها بقوة، فلم تهزم فقط رجال الشرطة، ولكنها من قوة ارتدادها وصلت إلى الحاكم الجالس هناك في القصر الرئاسي يحيط به الحراس المدججون بالسلاح.
إنها قيامة الجسد الصريع الذي يهزم قاتله، بعد طلوع الروح، نظرية جديدة ستغير استراتيجيات الحراسة، فالكلمة الصادقة قادرة على أن تهزم الرصاص والعربات المدرعة والقنابل المسيلة للدموع.
نظرية جديدة تهدم مقاييس القوة التي عرفناها منذ الأزل، فالمعادلة يمكن أن تختلف في لحظة، ويصبح السجان سجينا والسجين سجانا، والروح التي خرجت من الجسد البريء بالتعذيب، تخرج من صاحبها لتمسك بتلابيب القاتل، وتضربه على قفاه، إنها قصة المستحيل، تتجسد كل يوم وكل ثانية، وهو نفسه المستحيل الذي حققه على مر التاريخ الثوار والأبطال والمقاومون.
المقتول أطول عمرا من قاتله، والدلائل كثيرة على ذلك، فقد مات الثائر الكوبي جيفارا منذ 45 عاما، ولكن أفكاره مازالت حية تلهم الشعوب الباحثة عن الحرية، ومازال الشباب يقبلون على صوره، والتذكارات التي تحملها. الجسد يموت، ولكن الفكرة لا تموت. تظل هكذا حية نابضة تلهم الأمم والشعوب.
علمنا الله منذ أكثر من 1400 عام أن القوة لا تكمن في العتاد والسلاح، ولكنها تكمن في قوة الإيمان، وأن العزيمة بوسعها أن تتغلب على أعتى الجيوش، قال تعالى "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ"، خدعوك فقالوا إن "الكثرة تغلب الشجاعة"، لأن شجاعا واحدا قادر على هزيمة ألف جبان.
يقول قانون نيوتن الثالث "لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار، ومضاد له في الاتجاه"، والمقاومة رد فعل للظلم، والكفاح رد فعل للبطش، والثورة رد فعل للإقصاء والتهميش والجوع.
أغلق الظالمون أبواب الشكوى والتظلم المشروع، واعتقلوا حرية التعبير، وصادروا الرأي، فلم يجد المواطن البائس وسيلة للاحتجاج والصراخ سوى إيذاء جسده، الشيء الوحيد الذي امتلكه في حياته.
لم يكن محمد البوعزيزي أول من يحرق نفسه اعتراضا على الظلم، فقد سبقته المئات في دول كثيرة من العالم، وهو بالطبع لن يكون الأخير، ورغم عدم تأييدنا لفعل الانتحار، فإن الواقع يشير إلى أن الحريق سيستمر وسوف يمتد ليحرق المزيد من الأبرياء، ويحرق معه وجوه الظالمين.
سيظل الجهاد تكليفا إلهيا في قلب كل مسلم، يرقى لمرتبة الفرض عندما يتعرض لاعتداء أو ظلم، ورغم أن البعض شوه لفظة "الجهاد" حتى أصبح كلمة سيئة السمعة ترادف الإرهاب، والاعتداء، والخروج على القانون، إلا أن الجهاد في الحقيقة يتعدد ليشمل الجهاد بالرأي، والحق، والعلم، والحوار، والتسامح، والبناء، والتنمية، وإعلاء القيم النبيلة، وأعظمه قول الحق، يقول الحديث الشريف "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".