عندما أعلن عن قيام الرحلة رقم 514 التابعة للخطوط الجوية الملكية الأردنية المتجهة إلى دبي ، حملت حقيبتي وتوجهت الى قاعة المغادرين ، حيث تجمع المسافرون استعداداً للإقلاع . كانت القاعة مليئة بالركاب من كافة الجنسيات العربية والأجنبية ، ومن مختلف الأعمار ، فقد كان الوقت صيفاً ، وموسم الإجازات قد قارب على الإنتهاء . بعد أن أنهينا إجراءات المغادرة ، والتي استنفدت منا الكثير من الوقت ، والكثير من المعاناة ، ركبنا الحافلات الكبيرة واتجهنا الى الطائرة الرابضة بعيداً عن مبنى المطار . عندما وصلت ، كانت المقاعد قد شغلت بالكامل ولم يبق منها شاغراً إلا العدد القليل ، ناولت تذكرتي إلي المضيفة الحسناء التي كانت في استقبالنا ، فقادتني إلى منتصف الطائرة تقريباً ، حيث أشارت الى أحد الأمكنة ، وابتسمت ابتسامة ذات مغزى . كان هناك مقعدان أحدهما شغلته امرأة بدينة في الثلاثينات من عمرها ، والآخر نصف خال تقريباً ، حيث فاض جسد المرأة السمينة عليه ، وحجبه حتى نصفه . جلست في الحيز الخالي من المقعد بشق الأنفس ، وأنا ألعن الحظ العاثر الذي قادني إلى مثل هذا المكان ، وإلى مثل هذا المقعد ، حيث جارتي البدينة جداً ، تكاد تسد علي الفضاء ، وتكاد تخنق أنفاسي .
تشاءمت من هذه الجلسة غيرالمريحة ، وشعرت بالضيق والغضب من هذا الوضع البائس ، ومن هذه المرأة التي تجلس بجانبي ، وتسبب لي كل هذه المعاناة ، خاصة وأن الرحلة سوف تستغرق أكثر من ثلاث ساعات متواصلة . دعوت الله - في سري - أن يساعدني ويخلصني من هذا المأزق الصعب ، ومن هذه الجلسة الخانقة ، وأن يجعل لي مخرجاً .
قبل الإقلاع بقليل جاء أحد المضيفين وسأل المرأة البدينة بعصبية وانفعال : - من الحمار الذي أجلسك هنا ؟ إنك تسدين باب الطوارىء ! ارتبكت المرأة البدينة وتلعثمت ، ولم تدرِ ماذا تقول ، إلا ان المضيف لم ينتظر ردها ، وأمرها بأن تنهض و تتبعه فورا . عندما خلا لي المكان ، تنفست الصعداء ، وحمدت الله كثيراً على هذا التغيير ، الذي حررني وجعلني اجلس على راحتي دون ازعاج ، ودون مضايقات ; فقد أصبحت حراً طليقاً ، وصار بإمكاني أن أجلس على راحتي ، وأمد جسمي كما أريد .
أقلعت الطائرة ، وظل مقعد المرأة البدينة بجانبي فارغاً ، دون أن يشغله أحد، كانت فرحتي غامرة ، وسعادتي لا توصف ، فقد خلا المكان ، وتغيرت الأحوال ، ولأول مرة شعرت بأن الطائرة واسعة ، وبالهواء بارداً ، وبالجو نقيا . " سبحان مغير الأحوال " تمتمت في سري مراراً وتَكرارا ، وحمدت الله كثيراً لأنه استجاب لدعوتي وجعل لي مخرجا !
بعد قليل جاءت إحدى المضيفات الفاتنات التي تقطر جمالاً ورقه واستأذنت بالجلوس إلى جانبي ، فقلت لها على الرحب والسعة . عندما جلست المضيفة بقربي ، شعرت بأنها ريشة أو نسمة - على رأي محمد عبدالوهاب - في ليالي الصيف ، كانت جارتي الجديدة قمة في الجمال ، وغاية في الأناقة ، كلما راحت أو جاءت فاح عطرها ، وانتشر عبيرها في أرجاء المكان . " شتان ما بين الثرى والثريا " قلت في سري .
طوال ساعات الرحلة أخذت بتجاذب أطراف الحديث معها، وخضنا في شتى مناحي الحياة ، فقد كانت المضيفة من بلدي ، ومن مدينتي نفسها، حتي أننا أصبحنا صديقين ، كأننا نعرف بعضنا بعضاً منذ زمن طويل . كانت سمراء فارعة ، تكاد تفيض رقة وعذوبة ، وكأنها جاءت من كوكب آخر .
خدمتني الظروف فقلبت حظي السيء مئة وثمانين درجة ، وجعلتني اتمتع بسفر مريح وهانىء ، وأحظى برفقة جميلة وساحرة ، بعد أن خيل إلي أنني سأختنق في بداية الرحلة ،
بعد مضي بعض الوقت ، ذهبت الى "التواليت " في آخر الطائرة ، فوجدت المرأة البدينة تفترش المقعدين الأخيرين - لا يشاركها فيهما أحد - وتغط في نوم عميق .
تاريخ الإضافة: 2022-12-23تعليق: 0عدد المشاهدات :264