أتابع الصحافة الأجنبية منذ سنوات، وهذه المتابعة اليومية الدقيقة فتحت لي أبواب الدهشة، وكان لها تأثير ليس على حياتي الصحفي فحسب، ولكن على رؤيتي للحياة .

ليست هذه صدمة ثقافية أو تعصب للغرب، أو كما يقول التعبير الدراج "عقدة الأجنبي"، ولكن  لأن الصحافة الغربية تتميز بالفعل بمزايا كثيرة، لا توجد في الصحافة العربية، لست الآن في معرض المقارنة بين الصحافة الغربية والعربية، فالفرق ـ بكل وضوح وللأسف وبدون زعل ـ هو فرق بين السماء والأرض، ولكن لتبيان بعض التقاليد الصحفية الغربية التي لمستها بنفسي، ونتعلم من تجارب الأمم.

تتميز الصحافة الغربية بمزايا مهمة، مثل حجم التوزيع المليوني، والمقروئية العالية، والحرية، والأهم التقاليد الصحفية المدهشة مثل المهنية والاستقلالية، وعلى صعيد الكتابة تتميز بالبحث والاستقصاء والكشف والمصدر المفتوح، .. وغيرها من التقاليد التي ترسخ المصداقية، وتعزز قيمة الصحافة التي تتضاعف قيمتها ـ كالذهب ـ بمرور الزمن.

من التقاليد التي أدهشتني في الصحافة الغربية الشفافية ، وذلك يتجلى في توضيح علاقة الكاتب بالقضية التي يطرحها، فعندما يكون للكاتب علاقة بالقضية التي يطرحها قد تقود إلى مصلحة ما، يجب أن يوضح ذلك في صدارة المقال.

في تقرير نشرته مجلة Forbes الأمريكية كتب لورين طومسون Loren Thompson مقالا بعنوان "لماذا نعلم أن تكاليف دعم F-35 ستنخفض في المستقبل Why We Know F-35 Support Costs Will Fall In The Future "، كتبه ردا على تقرير صدر عن مكتب المحاسبة الحكومية الأمريكي ينتقد ارتفاع تكاليف تصنيع الطائرة F-35.

مقال طومسون كله دفاع عن الطائرة والقدرات القتالية التي تتمتع بها، والأهم تكاليف إنتاجها التي يرى أنها طبيعية، كل هذا عادي، ولكن الغير عادي هو أن الكاتب كشف لقارئه بجلاء العلاقة بينه كشخص وجهة عمل والشركات المصنعة للطائرة .

قالت الكاتب :

I should mention up front that my think tank receives funding from several of the biggest industry players on the program, including airframe prime contractor Lockheed Martin and engine prime contractor Pratt & Whitney.

وترجمة النص هي : "يجب أن أذكر مقدمًا أن مركز الأبحاث الخاص بي يتلقى تمويلًا من العديد من أكبر اللاعبين في الصناعة في البرنامج، بما في ذلك المقاول الرئيسي لهيكل الطائرة Lockheed Martin والمقاول الرئيسي للمحركات Pratt & Whitney".

كان من الممكن أن يتغاضى الكاتب عن هذه العلاقة المصلحية بينه وبين أكبر صنّاع الطائرة، والتي قد تفسر دفاعه المستميت عن غلاء تكاليف الطائرة،  بل ويخفيها كما يفعل الكثيرون، ولكن الشفافية الصحفية الغربية اقتضت من الكاتب أولا ومن الصحيفة ثانيا أن يوضحا هذه العلاقة، ويقدما وجهة النظر المخالفة، ويتركا للقاريء حرية الحكم.

شاهد آخر على الشفافية الصحفية من مجلة Entrepreneur، وهذه المرة في المقالات ، عندما يكون كاتب المقال رجل أعمال، توضح المجلة ذلك ، ليس ذلك فقط ، ولكن توضح أن رأي رجال الأعمال خاص بهم، فمثلا في مقال كتبه رائد الأعمال آر إل آدمز بعنوان "32 طرق مثبتة لكسب المال بسرعة" ذكرت المجلة صراحة في صدارة الموضوع العبارة التالية :

Opinions expressed by Entrepreneur contributors are their own.

وترجمتها : الآراء التي يعبر عنها المساهمون من رواد الأعمال هي آراء خاصة بهم.

مثال ثالث من مجلة   Entrepreneur  وفيه توضح المجلة للقاريء إذا كانت ستستفيد من نشر مقالة ما بالحصول على عمولة من المنتجات المباعة عن طريقها ، فمثلا نشرت المجلة هذا الإفصاح في صدر أحد تقاريرها:

Disclosure: Our goal is to feature products and services that we think you'll find interesting and useful. If you purchase them, Entrepreneur may get a small share of the revenue from the sale from our commerce partners.

وترجمته : الإفصاح: هدفنا هو إبراز المنتجات والخدمات التي نعتقد أنها ستجدها ممتعة ومفيدة. إذا قمت بشرائها ، فقد تحصل Entrepreneur  على حصة صغيرة من عائدات البيع من شركائنا التجاريين."

هذا الموقف المهني والأخلاقي من الكاتب ومن الصحيفة، لم يأتي بصفة فردية، ولكنه نتاج لتقاليد مهنية عريقة، تؤكد على الشفافية واحترام القاريء وتقديم المصلحة العامة، وهو تقليد غير موجود ـ للأسف ـ في صحافتنا العربية، حيث تضيع الخطوط الفاصلة كثيرا بين الكاتب وصاحب المصلحة، والصحافة والإعلان، واخبر والعلاقات العامة، وإن ظهرت علاقة مصلحة من هذا النوع، لا تظهر إلا صدفة ، من خلال فضيحة، أو بيان من النيابة العامة.

الشفافية الصحفية تعزز مصداقية الصحافة كسلطة للتثقيف والتنوير والرقابة على المجتمع، وتمنع الفساد، والإشاعات، وتمنح الفرصة للرأي والرأي الآخر، وهذا ـ لاشك ـ أسرع طريق لتحقيق مصلحة المجتمع .