أتوقع حدوث فقر ابداعي خلال السنوات المقبلة، وهذه ليست عبارة مجازية، ولكنها الحقيقة، سيتعرض العالم العربي لشح شديد ـ ليس في الموارد ولا المياه ـ ولكن في المواهب، أعوام رمادة جديدة، تتعطل فيه المصانع، وتصاب المؤسسات بالعجز لغياب عنصر مهم جدا وهو الكفاءة.
المدخلات تؤدي إلى المخرجات، هذه حقيقة ثابتة، وكل المدخلات الآن تؤدي إلى هذه النتيجة الكارثية، فقر شديد في المواهب والمهارات والخبرات، لدرجة تصيب المجتمعات بالشلل، والمواهب التي ستختفي لن تكون فقط المهارات النادرة ـ كما يحدث عادة ـ ، ولكن حتى في المهارات البسيطة، والبسيطة جدا، من صيانة العدد والآلات حتى السباكة.
لا تتعجب مثلا لو قرأت يوما إعلانا في إحدى الصحف على هيئة استغاثة يطلب سبّاكا بصفة عاجلة لإصلاح السباكة في إدارة حكومية مهمة، بعد أن طفحت المجاري في مكاتب الموظفين، أو إصلاح آلة أساسية في إنتاج مصنع كبير.
الفقر الإبداعي متوقع على المدى البعيد، ولكن ما عجل به ما حدث في العامين الأخيرين، بعد ظهور Covid 19، حيث أحدث الفيروس إنقلابا في حياتنا الاجتماعية، والاقتصادية ورؤيتنا للعالم، لقد تغير شكل العمل، والعلاقات الاجتماعية، الاقتصاد، وأصبحنا أمام اقتصادات جديدة، وقواعد جديدة للتواصل والعمل والانتاج.
لقد تغيرت معايير الأداء، وأصبحنا الآن أمام مقاييس مختلفة، معايير لو طبقت ستخرج 90 % من القوى العاملة . هذا عصر الابداع والابتكار، والشركات المليارية التي تعمل بدون مقر، والملياردير قبل الثلاثين، والشباب الذي يعمل عن بعد فينتج أفضل من المكتب، والموهوب الذي يعمل من الصندقة، ويحقق مليارات المشاهدات على يوتيوب. عصر جديد لا مكان فيه إلا للمبدع والاستثنائي والمبتكر .
إنتهى عصر أداء العمل كما يجب، لا يكفي الآن أن تقوم بمهمتك ـ كما يقول التعبير الدارج ـ على أكمل وجه ، ليس من المقبول الآن أن تجيب في الاختبار وتضع الإجابة النموذجية الموجودة في المنهج بالنص، لينطبق عليك مقولة أستاذي الراحل الدكتور محمد مصطفى هدّارة الذي كان يقول في هذه الحالة "بضاعتنا ردّت إلينا"، .. هذا عصر التفكير المبدع الخلاق، لقد علمتنا الجائحة درسا مهما وهو أن من لا يبدع يتراجع، ومن لا يبتكر يموت.
وقد وعت بعض الدول ذلك، فبدأت إرهاصات حرب جديدة، فبعد حرب المياة المشتعلة عمليا بين العديد من الدول، وحرب السمك بين بريطانيا والاتحاد الإوروبي، الحرب المقبلة هي حرب المواهب.
الدول الذكية أدركت ذلك مبكرا، وبدأت في استقطاب المبدعين، وتوطين المهارات، ورفع مخزونها من العلماء والمخترعين والمبرمجين وصنّاع المستقبل.
يجب إعلان ثورة إدارية في عموم البلاد العربية، والبدء فورا بإصلاح هذا الخلل التاريخي، يجب أن نفتح فورا ملف المبدعين، ونعيد صياغة اللوائح والقوانين وأنظمة العمل لتواكب الواقع الجديد . يجب أتمتة قسم الشؤون الإدارية، وتحويله إلى مهمة أساسية ووحيدة وهي : استقطاب المبدعين.
آن الأوان لتمكين المبدع بالقانون، واعتبار مقاومة ذلك مخالفة إدارية كبيرة تندرج تحت بند خيانة الأمانة الموجبة للفصل والمحاكمة، وهي قبل ذلك مخالفة دينية كبرى، لأنها تعطل التكليف الالهي للإنسان بإعمار الأرض .
آن الأوان لكي نفتح ملف فساد جديد وخطير وهو محاربة المبدع، لأن عدم تمكين المبدع يضيّع على الأمة ترليونات الدولارات سنويا . بسبب عدم الاستفادة من جهوده من ناحية، والخسائر الناتجة عن تعيين فاشل بدلا منه من ناحية أخرى.
يجب أن نستحدث فورا مسارا للمبدعين، يمكّن المبدع من الوصول مباشرة إلى رأس الهرم الوظيفي، ويضم آليات لتمكينه ومنحه فرصة الابداع والإنجاز، .. مسار المبدعين جراحة عاجلة لإنقاذ البلاد والعباد، قبل السنين العجاف .