تسجيل الدخول
برنامج ذكاء اصطناعي من غوغل يكشف السرطان       تقنية الليزر تثبت أن الديناصورات كانت تطير       يوتيوب تي في.. خدمة جديدة للبث التلفزيوني المباشر       الخارجية الأمريكية تنشر ثم تحذف تهنئة بفوز مخرج إيراني بالأوسكار       الصين تدرس تقديم حوافز مالية عن إنجاب الطفل الثاني       حفل الأوسكار يجذب أقل نسبة مشاهدة أمريكية منذ 2008       تعطل في خدمة أمازون للحوسبة السحابية يؤثر على خدمات الإنترنت       حاكم دبي يقدم وظيفة شاغرة براتب مليون درهم       ترامب يتعهد أمام الكونغرس بالعمل مع الحلفاء للقضاء على داعش       بعد 17 عاما نوكيا تعيد إطلاق هاتفها 3310       لافروف: الوضع الإنساني بالموصل أسوأ مما كان بحلب       فيتو لروسيا والصين يوقف قرارا لفرض عقوبات على الحكومة السورية       بيل غيتس يحذر العالم ويدعوه للاستعداد بوجه الإرهاب البيولوجي       ابنا رئيس أمريكا يزوران دبي لافتتاح ملعب ترامب للغولف       رونالدو وأنجلينا جولي ونانسي عجرم في فيلم يروي قصة عائلة سورية نازحة      



المُتَسَرْنِمون.. تَجريبٌ لتسريد الفلسفة والعلوم


عزت عمر

"المتسرنمون" رواية الصديق د. عمر عبد العزيز الصادرة حديثاً، وهي رواية فلسفية كتبت بلغة أكاديمية اصطلاحية، تتكاثف حول القيّم والمفاهيم الكبرى في حين، ولغة سردية سيرية بسيطة في حين آخر، يجمعهما سارد عليم أمسك بكافة خيوط السرد دونما أن يُفلت خيطاً واحداً، لشخصية تسعى للتعبير عن نفسها أو لحوار كاشف يضيء بعض المقاصد، وأنا مع ذلك كنت مستمتعاً بهذا النمط غير المألوف من السرد الحرّ، على اعتبار أنها رواية أفكار وشخصيات عامة لعبت دوراً مهمّاً في تاريخ الفكر والعلم والقيم الإنسانية.

الاشتغال السردي

نهض النصّ فنياً على بنية إطارية كبرى يسترجع فيها النوراني، الشخصية الرئيسة، ذكرياته وماضيه بعد إصابته بعدوى فيروس كورونا، وأمضى في العناية المشددة عشرة أيام، اشتعلت فيها حواسه وهواجسه ومشاعره وأحلامه، بمعنى أن هذه المحنة الكبيرة أتاحت له فرصة التأمّل والاعتبار، من خلال استعراض محطات مهمة من حياته، ترتبت عشوائياً في المتن السردي الذي تداخل فيه الحاضر بالماضي، والواقعي بالمتخيل إلى حد الاشتغال على تسريد الفلسفة الصوفية، والفكر العلمي ضمن إطارات سردية أو شذرات تجاور فيها الحكايات، وامضة مكتفية بذاتها. وقد انطلقت جميعاً مع انطلاقة الفتى النوراني نحو العالم.. في الصومال زمن الاحتلال الإيطالي، ومنها إلى عدن والحياة فيها إبّان عقدي الستينيات والسبعينيات، ومنها إلى بوخارست ولندن، وغيرها من بلدان العالم التي وصل إليها العرب لاجئين أو مغتربين، في إشارة أوّلية إلى مآلات الثورات العربية التي سمّيت بالربيع العربي في 2011م.

ونموذجه السردي على حدّ تعبيره: النسخة الجديدة من زمن العاديات، وفيها سيلتقون بكثرة كاثرة من الهاربين العرب الذين ينضوون جميعاً تحت مُسمَّى اللاجئين، وقد أحسنت الذاكرة الأنجلوساكسونية صنعاً بتوزيع المسمّى العام للاجئين إلى مراتب يتوزّعها السياسي والإنساني والطارئ، وبهذا مهّدوا الطريق لبقية بلدان القارة القديمة. وسيطلع قارئ الرواية على العديد من قصصهم وسلوكاتهم وهم في طريقهم لفهم مشكلاتهم الوجودية وأسبابها، وما سيسفر عنه هذا الفهم لاحقاً.

وإلى جانب هذه الانطلاقة ثمة نسق سردي موازٍ نهضَ على عشرات التناصّات والمتفاعلات النصّية للشخصيات العربية والعالمية التي ساهمت في تقدّم العالم، وهم شخصيات غنية عن التعريف: علمية، فلسفية، تاريخية، دينية، صوفية وأسطورية جلبها السارد من مصدرين أساسيين: ذاكرة بصرية متمثّلة في الوصف المتقصّي والمشهديات الباذخة للطبيعة وحلقات الذكر والدوران الصوفي، وسواها ممن اعتدنا وجودها في رواياته السابقة.

وذاكرة قرائية مستوعبة يقظة تؤكّد ثقافة الروائي العامة وتضلّعه في شؤون الفلسفة والفكر والتصوّف، بل تمثّلها وهضمها بما مكّنه من اقتحام هذه العوالم الزاخرة من أنظمة التفكير التي ساهمت في عملية التقدّم الإنساني، انطلاقاً من الثقافات الطوطمية البدائية في إفريقيا، إلى اليوتوبيات وفلاسفتها الحالمين إلى الأديان والتصوّف، وصولاً إلى الفلسفات المعاصرة الممثّلة برموزها الصاخبة من مثل: نيتشه وشوبنهور، وإميل تشيوران، ووقوفهم في النقطة الوجودية الحرجة ما بين الشكّ والإيمان: "من لندن إلى بوخارست، ينتقل نوراني في السابعة من صباح عابر، هنالك حيث سيلتقي بعض الحائرين المنغمسين في منامات اليقظة وكان (إميل تشيوران)، وبمعيته (بيتري تسوتسيا) في تلك الحيرة الفلسفية التي تلت الحرب العالمية الأولى، وتوالت بمفاعيلها الذهنية المرهقة بعد الحرب العالمية الثانية". وقد تمحورت هذه التناصّات حول قطبيْ الخير والشر وصراعهما الأبدي في مجال استقطاب العالم.

ومن هنا؛ فإن الخيّرين هم "المتسرنمون" العظام الذين جاء على ذكرهم، على اعتبار أن "التسرنم" مفهوم مجازي، ولعله الأقرب إلى "الملهمين" من المفكرين والعلماء، ومن في حكمهم من مبدعين وأصحاب فلسفات أو منظّري تيارات فلسفية، وعلى حدّ تعبيره؛ فإن التسرنم هو "حالة معبّرة عن تلك القدرات الكامنة في اللاوعي أو اللاشعور". وفيما يبدو أن مثل هذا التوضيح كان ضروريّاً للقارئ وللمؤلّف الضمني للنصّ؛ كي يهندس مساريه الأساسيين والوصول إلى غاياته، وكأننا به يسعى لجعل قارئه مشاركاً في إعادة كتابة النصّ الفكري في الزمان الذي نعيشه. والبنيويون يقولون عادة: القراءة الثانية فاتحة المتعة، وما بين طرفي هذه العلاقة المعقدة ما بين النص والمتلقي المتفاعل والمثقف يعاد إنتاج النصّ، وهو ما سنسعى إليه في هذه القراءة.

توجهات السرد

لا بدّ من القول -كما أسلفنا أعلاه- إن هذا النمط السردي جمع ما بين الحقيقة العلمية والخيال المُجنّح، وما بين العقل البرهاني والعقل العرفاني.. قطبي الرحى الفكرية على حدّ تعبير د. محمد عابد الجابري، أو وفق رؤية عبد الله العروي، ولعلّها الأقرب لرؤية الروائي حول التراث العربي الإسلامي تحديداً، والمتمثّلة في أنّ هذا التراث سواء كان شفهياً أو كتابياً، فلسفياً أو دينياً، يجب التوقّف عنده والبحث في أسسه، مع الانتباه إلى المسكوت عنه واللامفكر فيه، لكنّ د. عمر عبد العزيز سوف ينطلق إلى رحاب إنسانية أوسع، ساعياً إلى تعزيز وجهة نظره في وحدة الفكر العالمي، بما يشبه ما أتبنَّاه شخصياً من أن البشرية ما انفكّت تكتب نصّها الإنساني منذ بدايات الوعي بالوجود، وبذلك؛ فإن الأزمة ما زالت كائنة ما بين ثقافتي السيطرة والقوّة والعنف، وثقافة القيم الإبداعية والجمالية العظيمة وأبعادها الإنسانية.. من مثل الحرّية والسلام والتعايش والنزاهة وتحكيم العقل والتبادل السلعي والمصالح المشتركة التي ما انفك هؤلاء "المتسرنمون" بتعبيره منكبين على صياغتها حتّى يومنا هذا، وإن اختلفت وجهات النظر والتفكير ما بين جلال الدين الرومي وكارل ماركس.. ما بين الغزالي والتبريزي من جهة، وتشيوران ونيتشه، وميشيل فوكو من جهة ثانية، فلكلّ "متسرنم" نهجه الذي غالباً ما يتأسس على اتخاذ موقف من هذا المأزق الوجودي وسؤاله الأساسي.. عن سرّه أو جملة أسراره التي شغلت العالم، وربما يحتاج هذا الكلام إلى شيء من التفصيل لتبيان وجهة نظره التي ترى أن نظرية كارل ماركس على سبيل المثال في مآلاتها النهائية تتوازى مع العرفانية الصوفية باعتبارها سعياً للارتقاء إلى مرتبة النقاء الكلّي، سواء عبر القراءة وتمثّل القيم الإنسانية حيناً، أو من خلال التقشف والتعبد والخلوات للوصول إلى الشفافية الخالصة. وكمثال من النصّ يقول السارد: "كل النبوءات الواعدة بالمستقبل، تتفق عند حد الانتقال بالوجود من حالته المعروفة إلى حالة جديدة، لكن الثنائي الحائر في بوخارست ما بعد الحرب العالمية الأولى، ليسا في وارد القناعة بخيار ما بين الطوبى الأرضية القادمة التي سيصنعها البشر، والجنة الغيبية التي تخرج من تضاعيف الفكر الكنسي اللاهوتي".

ومثل هذه الشذرات المتواصلة التدفق سوف تبيّن رؤيته ومقاصده في إضاءة مواقف الشخصيات من مثل الفيلسوف تشيوران وسواه: "يبحث إميل تشيوران عن ضالته المفقودة، مُتجشماً مشقّة القراءات المؤلمة المتتبعة لجدل الفكر والوجود، فيزاد قناعة يوماً بعد يوم، أو أسبوعاً بعد أسبوع، أو شهراً بعد شهر وسنة بعد أخرى، بأن كل ما في الوجود ليس إلاّ ضرباً من فوضى كونية، وعدمية غير قابلة للتفسير، وخيبات تبدأ مع يوم الولادة.

نسوق هذه النماذج الشذرية كي نُبصّر القارئ بكيفية اشتغال الروائي على نصّه بما يمكن وصفه بنظام "المصاحبات"، حيث تدفع عبارته "منذ يوم الولادة" إلى تذكّر ما كتبه هيدغر بأن الإنسان يغدو مرشّحاً للموت منذ لحظة ولادته، وبذلك؛ فإن القلق الوجودي سوف يرافق مسيرته الحياتية، وهذا بدوره سوف يساعد الراوي على استدعاء الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعرّي لتبيان مواقفه المعروفة من المسألة ذاتها: "إذا كان المعري اعتبر جناية تعذيبه واقعة على والده.. (هذا جناه عليّ أبي .. وما جنيت على أحد)، فإن تشيوران قَرن تلك الجناية بلحظة الولادة، فالخطأ كله يكمن في ذلك الحيوان المنوي الضال الذي لقح بويضة المرأة! ولقد استخدم تعبير الغزالي السني الأشعري عندما قرن موت ملايين الحيوانات المنوية بالمنجيات، فيما اعتبر الحيوان الذي يفلح في التلقيح من الهالكين؛ لأنه سيتحور ويتحول إلى مخلوق ترمي به الأقدار نحو متاعب الدنيا وعذاباتها".

أسلوبٌ ذكيٌّ أشبه بنظام توارد الخواطر وفق مصاحبات فكرية تتسلسل من مفكّرٍ لآخر، وهي شائقة ماتعة تجذب المتلقّي وتقحمه في عوالم جديدة يتجلّى فيها السرد من خلال التناص والمتفاعلات النصّية والمصاحبات اللغوية.

طريق الخلاص

لعلّ هذه المقاربات الفكرية ساهمت بدورها في بناء الشخصيات ورصد أوضاعها وسلوكها، بل لعلّ القارئ سوف يفاجأ عندما يتغير أسلوب الكاتب في القسم الأخير من الكتاب نحو سرد روائي شائق، إبّان تخصيصه مساحة كبيرة للنوراني الذي نظنّ أننا نعرفه من زمان، وهو الروائي ذاته.. يستعرض بعضاً من سيرته التي اطّلعنا عليها من خلال لقاء متلفز، وبحكم الزمالة منذ سنوات بعيدة، وبخاصة اهتماماته الفكرية والفلسفية ومتابعاته الدقيقة لعلاقة الإنسان بمحيطه ووجوده المؤقّت، ولاسيّما وأنه تعرّض مؤخّراً للإصابة بعدوى الفايروس "كورونا"، الذي بدوره أيقظ فيه مشاعر وتأملات جديدة لسلوك الطريق الذي يرى فيه خلاصه كسائر المتسرنمين من الفلاسفة والصوفيين، فتابعنا سفره الصعب منذ لحظة وجوده داخل سيارة الإسعاف، وحّتى خروجه من المستشفى، وما أسفر عنه من نتائج على صعيد الذات وانعطافة المشاعر، وقد عبّرت عنها لغة تستمد شرعيتها من السريالية بما اجترحته من مشهديات مؤفلمة، بينما هو متوجه إلى اللاّمكان واللاّزمان هناك حيث تستقر الأرواح، بما يذكّر بمحمود درويش عندما وقف في موقف مماثل في قصيدته الجدارية:

أرى السماء هناك في متناول الأيدي
ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب
طفولة أخرى. ولم أحلم بأني
كنت أحلم. كلّ شيء واقعي. كنت
أعلم أنني ألقي بنفسي جانباً
وأطير. سوف أكون ما سأصير في
الفلك الأخير. وكلّ شيء أبيض..

وهكذا سافر النوراني في أقاليم الغيب، أو بتعبيره: "سافر بعيداً في عوالم الغيوب، وانبرى اللاشعور لديه لتسطير ملحمة مرئيات وشواهد، ومشاهد كانت بجملتها بمثابة اختبار إرادة، بل منحة إلهية، وتمهيد للما بعديات البعيدة، التي قد ينال كمال حضورها في رحلته القادمة صوب برازخ الحياة الجديدة"
.

وما قصدته بالمؤفلم هو البنية الإطارية المشهدية الزاخرة بالحركة واللون والمشاعر الفائضة؛ وكأننا نحضر فيلماً سينمائياً لرحلة عودة الروح إلى بارئها، أشبه بطيران في الهواء فوق أراض وسهول.. نحو مكان أثير أو خطير، ولعلّه العالم السفلي الذي تحدثت عنه الأساطير، أو لعلّه يقترب من أحد أحلام تشيوران، وفي ذات الوقت يحمل بعضاً من رحلة المعرّي في "رسالة الغفران". ولكنه في النهاية سوف ينجو كي نتابع مخرجات هذه الرحلة التي سببها فيروس غير مرئي عابر للحدود.. بَلْبلَ العالم ووضعه موضع السؤال عن مستقبله.

الشخصيات الأخرى من مثل إبراهيم والشرجبي وباعبّاد، وذوي القمصان البيضاء وسواها.. أدت أدوارها، بل إن بعضها من مثل ذوي القمصان البيضاء قد يغدو علامة بارزة لرموز الصوفية الكبار الذي بلغوا المراتب العليا، في الوقت الذي سوف يكتشف الآخرون الحقيقة بمجرّد مغادرتهم نقطة تشيوران الحرجة، ودخولهم الدائرة الواسعة الحاوية لكلّ من تسرنم سابقاً، وبمعنى آخر؛ ليس ثمة طريقٌ واحد للوصول إلى الحقيقة؛ وإنما يمكن الوصول إليها عبر العديد من الطرق سواء كانت وعرة أو سهلة.

 

التصنيف

على اعتبار أن الرواية جنس أدبي غير منتهٍ في تكوّنه، صنّفتُ هذا العمل في إطار رواية ما بعد الحداثة، وفق جملة المعايير التي وضعتها في كتاب سابق بالعنوان نفسه، بمعنى أن هذا النمط من الكتابة عبارة عن وعي جديد يتناسب وثقافة العصر الفكرية والعلمية والإبداعية، بمعنى آخر.. إنه ليس وعياً سحرياً أو خرافياً مرتبطاً بوعي سابق يفسّر ويعزو الأحداث إلى قوى غيبية، وكائنات غامضة يراها كلّية القدرة، من مثل حكايات الجنّ وتدخّلهم في شؤون البشر، وفق المخيال الشعبي المؤسطر لذوي القدرات الخاصة والفكر المختلف عن مألوف الجماعة؛ وإنما هو في النهاية إرادة وسعي حثيث للخلاص مما يعوق التواصل مع الله.

وإذا كانت مثل هذه الأفكار محدودة في النخب العلمية والأدبية سابقاً، إلاّ أن رواية "المتسرنمون" كتبت في زمان الثورة المعرفية والتكنولوجيا الذكية بما يعنى انزياحها عن النخبوية الصارمة إلى وعي عام جديد وكلّي، بمعنى آخر؛ لم يعد ثمة غامض في زمان الشفافية المطلقة هذا

تاريخ الإضافة: 2021-12-11 تعليق: 0 عدد المشاهدات :382
1      0
التعليقات

إستطلاع

مواقع التواصل الاجتماعي مواقع تجسس تبيع بيانات المستخدمين
 نعم
69%
 لا
20%
 لا أعرف
12%
      المزيد
خدمات